عصفورة تحدت صقر /للكاتبه فاطمه رزق
خرج بيجاد من مكتبه، ممسكًا بورقة ما وعلى وجهه آثار الغضب، ثم اتجه ناحية مكتب صهيب وفتح الباب بدون حتى أن يطرقه، ولكنه تفاجأ حين لم يجده بالداخل، فدلف إلى المكتب ليتأكد ..
كانت فيروز حينها تتابعه بنظرات متوجسة ولم تنبس بكلمة ..
وحين تأكد هو من خلو المكتب إلا منه خرج على فوره وهو لا يزال ممسكًا بتلك الورقة ..
ثم إقترب من مكتب فيروز، وضرب على مكتبها بقوة وهو يضع الورقة البيضاء الممسك بها على مكتبها ..
فإنتفضت هي على إثر قبضته، ثم وقفت بصعوبة محاولة الإتزان بعد أن كادت تقع
وتزلزلت نبرتها وهي تسأله بخفوت بـ :
-فـ فيه إيه !
ظل وجهه متجهمًا، وعينيه ينبعث منها شرار مرعب، فسرت رجفة في أنحاء جسدها بسبب تلك النظرات …
وبنبرة نارية أردف قائلًا :
-فين صهيب !
تحشرجت الكلمات في حلقها، قبل أن تشير بيديها المرتجفة ناحية الممر الذي عبر منه صهيب قبل قليل ثم قالت :
-هو .. هو مشى من شـ شوية
نظر لها بحقد أكثر، فارتجفت هي فزعًا، ثم ..
بيجاد بنبرة عالية :
-ولما إنتي عارفة إنه مشى مقولتليش ليه وأنا بدور عليه !
ضمت ساعديها أمام صدرها وأنزلت رأسها للأسفل لتبتعد عن نظراته القاتمة، ولم تجبه بل إكتفت بهذا
وقبل أن تبتعد بعينها لمحت الورقة التي وضعها على المكتب، وقرأت المكتوب بها بروية resignation (الإستقالة) !
لم تكد تستوعب ما قرأت حتى ..
وجدت من يمسك يديها المقعقودتين بشدة ويهزها قائلًا بصوت كالفحيح :
-لما أنا أتكلم تردي مش تطنشي، سمعاني !
تسارعت أنفاسها لدرجة لا تحتمل، وإزداد قلبها خفقانًا حتى شعرت أنه سينفجر، وسريعًا لتنجو من براثنه أومأت رأسها مرارًا ثم حاولت أن تنتزع يديها من بين يديه فلم تستطع
فقالت بنبرة مترجية وهي تكاد تبكي :
-حاضر، بس شيل إيدك عني
رآها على وشك البكاء فإبتسم بتشفي، رآها تكاد تنهار فأطبق يديه عليها أكثر ..
وبنبرة حادة قال :
-لأ مش هشيلها
أغمضت عينيها خوفًا منه، ولكن دمعة خانتها فوقعت !
ثم سحبها بقوة لتخرج من حيز مكتبها، وحتى وقفت أمامه إستمر بجذبها ..
ثم …..
هدر بها بيجاد بصوت مشتعل :
-إنتي السبب في كل دة ولازم تدفعي التمن
رفعت رأسها لتواجه عينيه، فلم تستطع من حدت نظراته وأنزلتها …
ثم وبنبرة مرتجفة قالت :
-طـ .. طب أنا عملت إيه ؟
رفع إحدى حاجبيه ساخرًا، وقهقه بصوت عالٍ قبل أن يردف بـ :
-عملتي إيه ؟ ، دا إنتي أُس البلاوي ..
توقف قليلًا وهو يرمقها بنظراته الهادئة لدرجة مرعبة، بينما هي تحاول جاهدة الإفلات بدون جدوى …
وتابع بعدها بنبرة خافتة، ولكن خطرة كصوت أفعى تبث سُمومها بفرائسها :
-وأنا بقى الوقت هعمل إللي إنتي خايفة منه، وأنا أصلًا ماشي من الشركة دي بس مش قبل ما أخد حقي منك
حاولت جاهدة الإبتعاد عنه فلم تستطع، وقبل حتى أن تفكر بالصراخ داهمها بوضع يده على فمها ثم مشى بها وهو يتلفت يمينًا ويسارًا نحو مكتبه، وظلت هي تحاول الإبتعاد أو الصراخ، لكن لم تستطع …
وإن صرخت فالآن جميع الموظفين قد غادروا !
ثم .. أغلق بيجاد الباب خلفه بسرعة …!!!!
……………………..
في منزل رحيل قصي …
كان صهيب جالسًا على الفراش بجانب عمه النائم، بينما كان الطبيب ينظر له قائلًا بنبرة هادئة :
-متقلقش هو كويس ده بس كله من آثار الهبوط، وبعدين هو مبيتغذاش حلو خالص ..
نظر له صهيب بقلق جليّ وأردف بنبرة ثابتة بـ :
-يعني هو كويس ؟
أومأ الطبيب رأسه قائلًا بنبرة متزنة :
-هو كويس، وإن شاء الله يصحى بعد ساعة بالكتير .. بس المشكلة عنده الأكل
أجابه صهيب بنبرة هادئة :
-طيب إوصفلي إللي المفروض ياكله، وأنا بنفسي هشرف على أكله اليومين الجاين وأنظمله فيهم
إبتسم له الطبيب مجاملًا قبل أن يخرج ورقة من حقيبته ويعطيه إياها قائلًا بصوت طبيعي :
-الورقة دي مدون فيها معظم الأكل الصحي، كنت عاملها للحالات إللي شبه كدة، وأمراض تانية خاصة، تمام ؟
-تمام
ثم طلب الطبيب الإذن بالإنصراف
وحين إختلى به صهيب نظر له نظرات غامضة، وظل يتابعه بهدوء …
قبل أن …
………
كان ذلك الطفل الصغير متشبثًا بسترة عمه، وهو ينظر لمن أمامه بإحتقان …
مدت نوران يدها لتأخذه وهي تردف بنبرة جادة بـ :
-صهيب، تعالى هنا أنا مش بهزر على فكرة
اختبأ صهيب خلف عمه قبل أن تصل يدها إليه وغمغم هو بأنين خافت بـ :
-مش .. مش عاوز أجي معاكي
نظرت له نوران غاضبة هو تردف قائلة بنبرة عالية :
-صهيب قولتلك تعالى !
كان رحيل حينها مكتفي بالنظر إليهما وقرر أن لا يتدخل بين إبن وأمه !
هز رأسه مرارًا وتكرارًا بالنفي، فإقتربت أمه منه وأمسكته من يده بقسوة وهدرت به بـ :
-أنا أمك يعني تسمع كلامي فاهم !
هز صهيب رأسه بالنفي وهو مغمض العينين، ولم تترك يداه اليمنى بعد سترة رحيل المتشبث هو بها بقوة
لم يستطع رحيل التحمل أكثر من هذا، فتعنيف صهيب أمامه كان يشعره بالألم، ولم يدري له سببًا لكنه أوقفها قائلًا بضيق :
-نوران، إهدي عليه شوية مش كدة…
فنظرت له الأخرى بإمتعاض، فلم يهتم بل على العكس تمامًا خلص يد الصغير منها، ورمى بيدها بعيدًا ..
ثم انحنى ليصل إلى مستواه وأردف قائلًا بنبرة هادئة :
-صهيب يلا يا حبيبي ماما بقالها أسبوع كامل بتيجي عشان تجيبك وإنت مـ …
وقبل أن ينتهي رحيل من سرد باقي المشكلة عليه، ضمه صهيب أو بالأحرى إختبأ صهيب داخل أحضانه وإنخرط في بكاء عنيف ..
ومن بين بكائه خرجت شبه كلمات متقطعة قالها باكيًا بإسراف :
-مـ .. مش عاوز أروح معاهـا، خليها تسيبنييي … خليها تسيبني عندك
ولم يكن بعدها أمام رحيل أي خياراتٍ أخرى، لن يستطيع أصلًا أن يتركه …
فبالرغم من أن ما يفعله صهيب الآن لم يكن محسوبًا، إلا أنه حقًا ولسبب ما يسعده !
وقف بعدها رحيل ولم يتفوه بكلمة، ولما كان الطفل متمسكًا به لا يريد تركه حمله ووقف به ثم إتجه به نحو غرفته ..
وحين أصبح بالغرفة تركه واقفًا على الأرض، ثم همس بأذنه قبل أن يخرج بدونه :
-خلاص إنت خليك هنا وأنا هتكلم معاها
أومأ صهيب برأسه وبعد أن ذهب رحيل إنزوى في إحدى أركان الغرفة وقد بدى عليه هدوء مريب …
وبعد ما يقرب من الربع ساعة عاد رحيل ..
وجلس بجانبه حتى أنه مد يديه على ساقه ليجلس مثله، فإبتسم له صهيب ..
وأردف متسائلًا بتوجس :
-أنا هفضل معاك هنا ؟
إبتسم له رحيل بمحبة وأجابه بنبرة هادئة بـ :
-إنت عاوز تفضل ؟
أومأ صهيب رأسه عدة مرات بدون حتى أن يفكر، فإقترب منه رحيل وطبع قبلة حانية على وجنته، ثم ..
رحيل بنبرة دافئة :
-خلاص هتفضل معايا طول ما إنت عاوز كدة، وأنا إتكلمت مع نوران خلاص وهي وافقت
…………
تابع صهيب النظر له، هو حقًا يعلم … بدونه لكان حاله أسوأ بأضعاف مضاعفة ..
يعلم أنه هو من أخرجه من تلك الهوة السوداء حين وقع بها ..لم ينسى ولا لثانية عطفه الذي كان يطفي على حياته بعضًا من ألوان غير موجودة !
بالطبع له أثر كبير ..
له الكثير من الفضل …
وجده صهيب يفتح عينيه أخيرًا، فشعر بالسكينة تتسرب إليه ..
فتح رحيل عينيه بإرهاق، ثم حاول الإعتدال في جلسته بعد أن سأل بهدوء بـ :
-صهيب هو إيه إللي حصل !
عبست ملامح صهب وأردف بنبرة حادة قائلًا وهو يساعده في الإعتدال :
-أغمى عليك، عشان طبعًا حضرتك مش بتاكل عدل !
أشاح رحيل وجهه للجانب الآخر وبتبرم قال :
-باكل بس إنت عارفني مش …
-مش بحب آكل لوحدي هتقول كده صح !
قاطعه صهيب مكملًا له باقي عبارته بضيق وهو يتأفف
زفر رحيل بشدة وقال بنبرة عالية :
-قبل ما تلومني لوم نفسك بقى هـه مليش فيه، وبعدين إنت مش بتاكل معايا و .. والطباخة إللي هنا أكلها بشع !
كتف يداه وأردف بإحتقان بـ :
-خلاص هبقى أنظم وقتي وأحاول أفطر معاك قبل ما أنزل الشغل، وحكاية الطباخة دي هشوف واحدة كويسة .. وأجيلك على ميعاد الغدا عشان ميبقالكش عذر !
ضحك رحيل، وبنبرة ساخرة أردف بـ :
-صهيب حبيبي إنت فاكر مين فينا عم مين !
-مش بهزر معتش تقصر في أكلك تاني، وبعدين إنت إللي بتجبرني أتعامل معاك كدة !
-طيب طيب هاكل
راقب رحيل إنكثام وجه صهيب، بأعين مغتمَّة ..
ثم إبتسم له، ومد يده ليلتقط ذراعه، وحال تلامست يداه وذراع صهيب، بدفئ النبرات أردف قائلًا :
-على فكرة أنا كويس متخافش عليا
نظر له صهيب تارة ثم لذراعه الممتدة تارة، بعينين جامدتين …
ثم أزاح يد رحيل بهدوء، قبل أن يقف على عجالة ويردف بإحتقان بـ :
-أنا مش خايف إنت إللي بيتهيألك، ثم أنا بس بعمل واجبي مش أكتر … إنت برضوه إللي ربتني وأنا …
لربما يلين الصخر قبل أن يلين لسانه !
ولكن لن يلومه، فإن كان هناك من يفهمه، ويدرك ما يشعر به هو، فليس هناك إلاهُ بالطبع بعد العليم الحكيم ..
لم تختفي الإبتسامة عن محياه، بل على العكس إزدادت إتساعًا ..
وبهدوء قال :
-هو شرط تكون خايف عليا عشان أقولك كدة !
أعطاه صهيب إحدى نظراته الساخطة، قبل أن يتركه ويذهب ..
فقد أدرك هو أنه قد أفرط كثيرًا اليوم في القلق، وقد ظهر ذلك جليًا على قسماته …
وهذا خطأ كبير !
بلى هو كذلك ….!
……………………..
كان مطبقًا على ذراعيها عند حائطٍ ما .. فقد كتفها كما يقيد الأسير بالأغلال ..
وظل ينظر إلى الخوف في عينها، وقد ملأ شعور الإنتشاء روحه، وخاصة أنها تستحق كل ما يفعله هو بها الآن، فهي من جنت على نفسها حين قررت تحديه والوقوف في طريقه، والأدهى أنها كانت تتجسس عليه !
حاولت الإفلات قدر إستطاعتها، وقد إنسكبت الدموع أنهرًا من حدة الخوف الذي يجتاح كيانها الآن .. ومع أنها شعرت به يترنح على غير عادته، وحتى أن الضعف قد دب فيه قليلًا وم ذلك لم تفلح في الفرار من قبضته ..
ولم تهتم حين اشتمت رائحة غريبة تفوح من فمه فهي لم يكن لديها الوقت للتفكير…
ومرة أخرى بدأت تحاول الإفلات وتحريك يدها القابعة تحت يديه القويتين، لن تستلم هي، مستحيل أن تفعل ..
ولكن كيف لها أن تظفر بنفسها وهي مقيدة هكذا ؟
-سـ سيبني بقى أرجو.. أرجوك يا بيجاد بـ… بيه !
قالتها فيروز وهي تبكي بشدة، وحتى تحشرُج الكلمات في حلقها قد أظهر مدى الرعب الذي تعيشه الآن ..
تصلبت عينا بيجاد أكثر، وتجلدت نبراته أثناء قوله :
-لأ مش سايبك يا فيروز .. مش سايبك، مش بعد كل إللي إنتي عملتيه دة، وبعدين أنا قولتلك تعالي بالذوق مجتيش فإضطريت أخدك بالعافية ….
شعرت فيروز أن قواها تنهار شيئًا فشيئًا، وشعرت أنها على وشك الإغماء، لكن الشعور بالفزع لما قد يحدث لها إن سلمت جسدها له على طبق من فضة .. جعلها تكتسب قوة من الا شيء، ولأنها حقًا فاجأته .. فلم يكُ منتظرًا أي مقاومة منها ..
وحين دفعته فجأة بعيدًا عنها، وظلت تصرخ عاليًا، أصابته بشحنة جديدة من الغضب ..
ولكن شحنة أقوى من ذي قبل …
ولذلك أسرع هو في خطواته إليها حتى إستطاع إمساك يدها، فصرخت فيروز عاليًا وبخطواطٍ محسوبة مدت يدها الحرة إلى المكتب خلفها وأخذت يدها تعبث بين أغراض المكتب وهي تنظر له بذعر ..
إلى أن وجدت شيئًا ما صلبًا، فحملته بدون حتى أن تفكر، ولوحت به في الهواء المقابل لوجهه ..
وبنبرة غلفتها قوة غريبة قالت :
-لو مفكر إني هسمحلك تقرب مني تبقى.. تبقى بتحلم..
لم يستطع هو تمالك نفسه حين وجدها تهدده بهذا التمثال العتيق، فسمح لضحكة متهكمة أن تصدح و…
قال هو بنبرة مستفزة بعدها، وهو يداعب أنفها الصغير :
-لأ خوفت !
جحظت عيناها أكثر، وتراجعت عدة خطوات …
بدت كما المعلقة على سفح الجبل إذا ما تداعى الحبل .. ولكنها حاولت جاهدة إستجماع شتات نفسها الضآلة، لكي تقاومه ..
وبالفعل صرخت فجأة وهي ترفع يدها عاليًا لتضربه بالتمثال في رأسه ..
فأمسك هو يدها قبل أن تصل إلى رأسه مباشرة ..
وظل يضغط على يديها بقوة حتى أفلتته وهي تتأوه ..
نظر لها بغضب شديد وهو يقول محذرًا :
-كفاية كدة عشان إللي جاي مش هيعجبك !
هزت رأسها عدة مرات مستنكرة الوضع الذي تعيشه، مستنكرة اليوم الذي بدأت تعمل به هنا، مستنكرة رؤيته أمامها، مستنكرة يوم ولدت، وحاولت الدفاع من جديد عن جسدها المعرض للإنتهاك في أي لحظة !
حاولت دفعه للخلف بكل قواها الجسامانية، ولم يتحرك قيد انملة، ولكنها إستطاعت إثارة حفيظته أكثر ..
ولأن يداها الإثنتان قُيدتا، فقد خطر لها إستعمال قدميها، وبالفعل رفعت قدمها اليسرى وبكل قوتها دعست بها قدمه اليمنى ..
فأغمض هو عيناه بألم وهو يسبها بإحدى الشتائم، ونظر إلى قدمه ومنه إلى قدمها وهو يقول بنفاذ صبر :
-أنا حذرتك كتير، وإنتي الوقت المسؤلة عن اللي هيجرالك !
إرتعدت فرائصها وظلت تحاول الإنفكاك عن يداه الاتي أطبقتا على يدها بقوة أشد بعدما فعلته، ولكن لم تستطع و …
فيروز بنبرة راجية :
-سـ… سيبني أرجوك، طب .. طب أنا هسيب الشركة و .. و هعمل كل إللي إنت عاوزه بس سيبني
مد يده إلى رأسها وبدون أن ينبس بكلمة سحب الحجاب أعلى رأسها بقوة، ذلك الحجاب الذي يثير مقته يوم رآها به ..
فإنسدل على الأرض، ولم تستطع هي حتى الدفاع عن شعرها الذي عَرى فجأة ..
ولكن فعلته جعلتها تصاب بنوبة أحد من الفزع وظلت تنظر للأرض حيث رماه هو، وقبل أن تفكر في أي شيء آخر وجدته يهمس في أذنها بخفوت :
-أنا مش هستناكي تحققيلي إللي أنا عاوزه، أنا باخده بنفسي …
جفت الدماء من وريدها، وشحب لون وجهها، وحتى الدموع تجمدت في مآقيها من فرط الرعب ..
هزت رأسها بقسوة رافضة كل ما يقول هو، وحركت يداها تحت قبضته بإصرار أكبر محاولة تحريرها …
وأردفت حينها ببكاء :
-خلاص بقى أرجوك، أنا عملتلك إيه لكل ده !
-مزاجي، أنا أصلًا ظـــــــالم !
ولم يمهلها بعدها ثانية قبل أن يجرها جرًا من شعرها ويرمها على الأريكة المجاورة لمكتبه ..
فإنتفضت هي لتحاول الهرب إلا أنه أمسك بذراعها قبل حتى أن تحاول الوقوف وإنحنى بجذعه نحوها فتراجعت للخلف مبتعدة عن وجهه، فأمسك هو بطرف ثوبها الطويل ثم نظر لها متشفيًا، آخذًا بثأره من تلك التي أرهقته خلفها طويلًا والآن قد آن الأوان ليأخذ ما هو من حقه !
حاولت هي تخليص ثوبها من قبضته وما إن إستطاعت حتى ضمت قدماها إليها وهي ترتجف،
فإبتسم بقسوة وهو يدنوا منها أكثر، تحت وقع ضربات قلبها المستغيثة، وبكاؤها المميت ..
فلم يهتم ولم يآبه أبدًا بعبراتها، والذعر الكامن في قلبها، فقد أتيح له أن يأخد ما أراد وإن كان عنوة فما الفرق !
أخذت تتراجع بصعوبة بيديها المرتجفتين، حتى إصطدمت بظهر الأريكة ولم يعد هناك مجال حينها للتحرك أكثر .. فإتسعت إبتسامته المتسلية وهو يراها تعاني، ووضع يده على وجنتها المرتجفة، فنظرت هي إلى يده الممتدة على وجهها بطرف عيناها نظرات ذُعر، وأخذت تحاول الإبتعاد عن يده بلا جدوى تُذكر، فكلما أبعدت رأسها قليلًا قرب يده هو اكثر، وإبتسامة متسلية تعلوا ثغره ..
ثم وبنبرة إستهجان قال :
-خلاص يا فيروز إنتهينا
وأضاف بصوت كالفحيح بـ :
-أنا قولتلك من زمان لما بعوز حاجة باخدها، والوقتي هاخدها يا .. يا جميل ….
……………………..
خرجت من الغرفة القابع بها والدها وقد إكتسبت نظرات أكثر سَكينة من الأيام القليلة السابقة، وإن لم تكن نظرات خالية من الألم ولكنها كانت تشعر ببعض من الراحة … فقد أعطتها الأيام السابقة كآبة لم تتحضر لها، وإزداد وجهها شحوبًا مع كل لحظة أسى مرت بها …
أن ترى الدموع في مآقيها وتثبُت وتجمُد لكي لا تنحدر ..
أن يختنق نفس الحياة لديها، وأن تظل مدعية القوة رغم كل شيء ..
أن تظل وحيدة مع كل مصيبة تجرف بحياتها ..
ما أقسى هذا الشعور، وما أشد حدته وآلامه !
سارت بعض الخطى بعد أن رسمت إبتسامتها المعهودة، وإلى أن جلست على الكرسي القريب من الغرفة أعطت لإبتسامتها شكلًا جديدًا، رونقًا خاصًا ومختلفًا فقد إنحنت شفاهها، لم تقوى على الإبتسام!
هزت رأسها وهي تتعجب من حالها وتقول بنبرة آمرة :
-متضعفيش
فنعم، تلك الإبتسامة تدل على القوة
أن تبتسم رغم كل شيء، تبتسم مع الحزن والغم، تبتسم مع الأسى وتجدد الإبتسامة بأخرى كلما بهتت ثم تتبعها بالحمد !
أليست تلك بقوة !
وفجأة بدون سابق إنذار، وجدت يدًا خشنة تمتد نحو عينها، إلى أن إلتصقتا بها ..
فإنتفضت هي على إثر ذلك
وبصوت جهوري نطق صاحب اليدين الممتدتين بـ :
-أنا مين؟
حالما تبين لها الصوت تصلبت ملامحها وعبست بوجهها وهي ترد عليه بغلظة، بينما تزيح يده عن عينها بقوة :
-إبعد عني أنا أصلًا مش طايقاك
إستطاعت إبعاد يده عنها، وبدون أن تنظر له حتى ذهبت مبتعدة عنه، فلحق بها هو بسرعة وأمسك يدها ليمنعها من الحركة أكثر ثم ..
وبنبرة هادئة أردف بـ :
-جوري، إستني عشان خطري
نظرت هي له بإحتقان ومن ثم مدت يدها نحوه وهي تنطق محذرة بـ :
-بص يا براء مش عاوزة كلام كتير خد بعضك وامشي من هنا خالص عشان فعلًا مش …
قاطعها هو قائلًا بصوت حزين :
-بجد! مش طيقاني للدرجادي ؟!
أشاحت هي وجهها عنه، لتخفي ملامحها وبنبرة هادئة قالت :
-اه، امشي يلا
أدار هو جهها إليه ونظر لها بتمعن وهو يقول :
-لأ مش ماشي، أنا مش جاي عشان أمشي، وبعدين راعي حتى إننا من .. من سنة مشوفناش بعض!
-هـه
نطقت بها جويرية ساخرة وهي تنظر إليه بغضب، ثم حررت يدها بحركة مفاجئة لكي تبتعد، إلا أنه أمسك بيدها بسرعة مرة أخرى وإحتضنها بقوة وهو يضحك ..
-سيبني يا بارد
قالتها جويرية وهي تحاول أن تبتعد عنه، إلا أنه أطبق يديها حولها بقوة أكبر
ثم وبنبرة مرحة قال هو :
-تصدقي بالله، وحشتني حركات الجنان دي وكنت متوقع تعمليها
هدرت به بصوت حاد وهي تدفعه بعيدًا عنها :
-إبعد عني أنا مش بهزر على فكرة
أجابها بحصافة وهو يستند برأسه على كتفها ليغيظها أكثر :
-لأ مش قبل ما تسمعيني، أنا عارف إنك مش هتقفي ساكتة لو سبتك كده
علمت هي أنه لن يبتعد، ربما هي عنيدة، ولكنه ليس بأقل منها عندًا … لذلك هدأت قليلًا ولم تتفوه بحرف ..
لن تنكر أنها اشتاقت له، ولصوته، ولن تنكر أن عينيها رغبتا كثيرًا برؤيته، فلذا قررت مجارات روحها ولو لمرة ..
وإستكانت …
إبتسم هو بسعادة حين وجدها هدأت ثم بدأ بنبرة لائمة قائلًا :
-إنتي بجد ممكن تتوقعي إني أتخلى عنك !
-أبدًا
قالتها بإستهجان وسخرية جليين فقال هو بعدها بهدوء :
-بصي يا مجنونة أنا مش هرد على التريقة دي وهحكيلك اللي حصل عشان تفهميني ..
صمت لثانيتين قبل أن يستطرد حديثه قائلًا :
-طبعًا كنتي في المطار معايا يوم ما قررت أسافر الأردن وأشتغل هناك !
لم ينتظر الرد ولذلك تابع بـ :
-وكنت بكلمك يوميًا أكيد، المهم بعدها بشهرين قررت أنزل أجازة، ولما روحت عشان أمضي العقد منفعش وقالولي إني ماضي عقد مرجعش البلد إلا بعد سنة وإلا هضطر أدفع نص مليون، وأنا مكنش معايا المبلغ دا ! ..
قاطعته هي بإستخفاف قائلة :
-وإنت مفكرتش في كدة قبل ما تمضي العقد!
زفر بفاذ صبر من طريقتها واردف بعدها قائلًا :
-أنا ممضتش عليه بإراتي يا فالحة
-أومال يا فالح!
-أصل .. أصل الحقيقة أنا مابصتش على بنود الـ ..
-فالح!
-بت .. بت بطلي تريقة وإسمعيني …
ضحكت على طريقته العفوية في الحديث، فأبعدها عنه ونظرإلى وجهها وقال بعد أن إرتفع إحدى حاجباه :
-زودتيها !
صمتت هي ونظرت له بضيق، ثم وحين قررت الهرب وجدت نفسها قد إلتصقت بالحائط فقد تراجعا كثيرًا، ووضع هو يداه كحائل يمنعها من الفرار .. ولكنها لم تستسلم وبسرعة إنحنت بجسدها لتتحرر من بين ذراعيه الممدوتين وتخرج من تحتهما إلا أنه قد إستطاع مجاراتها في نفس الثانية التي إنحنت هي فيها وإنحنى معها ووضع يداه حولها مرة أخرى ..
وبنبرة إعتزاز أردف بـ :
-مش براء يا جوري، يابت إحنا سوا من الرضعة يعني حافظك
حاولت كبت إبتسامتها التي خرجت عنوة، وبنبرة مستفزة قالت :
-أي حد ممكن يفكر في كدة .. عادي يعني
إبتسم حين رآها تبتسم، وشعر ببعض الراحة فتلك تحتاج إلى من يفهمها وقلما تجده لا بل نادرًا
وقال حينها ببرود :
-عادي مش فارق كتير، ثم اسمعيني بقى
-طب حاسب بجد دا مش منظر حد يقعد كدة
إبتعد عنها قليلًا لتقف وظل ممدد اليدين على الحائط قبل أن يردف بضجر بـ :
-أكمل؟
كتفت يديها وأشاحت ببصرها عنه وبنبرة غير آبهة قالت :
-ومالوا !
قرر هو متابعة حديثه فهدأت نبراته وهو يقول بحذر :
-و.. و لما إنتي قولتيلي إن والدتك مـ..آآ ماتت
لاحظ هو قتامة عينيها عند تلك النقطة، فأسرع بالحديث ليبعدها عن تلك عن ذلك الموضوع قائلًا بنبرة سريعة :
-كان دا نفس اليوم اللي أنا كنت ناوي أقولك فيه على اللي حصلي، وطبعًا لما عرفت اللي حصل مقدرتش أقولك حاجة …
ثم صمت قليلًا ليسترد نفسه الذي ضاع مع آخر عباراته ليقول بعدها بنبرة أكثر إتزانًا من ذي قبل :
– ويومها حاولت أجيلك كتير اوي ومنفعش خـالص كان حتى ممنوع عليا أهوب ناحية المطار الدولي لأني كنت عملت مشكلة كبيرة جدًا مع المدير وهو سببلي مشاكل هناك
وهنا نظر لها مطولًا بعتاب وهو يردف قائلًا بحزن :
-وفضلت اتصل بيكي وإنتي مردتيش، ومعرفتش أعمل إيه وفضلت كل يوم أتصل متعبرنيش وبقيت أعرف أخبارك من ماما أو بابا !
ظلت كما هي مشيحة بوجهها عنه، فأدار وجهها قبالته و أخذ ينظر إليها بهدوء قليلًا قبل أن يقول :
-يابت إنتي تتوقعي إني ممكن أسيبك لوحدك للحظة من غير سبب! – دا إحنا روحنا في بعض
لا حركة، لا كلمة أو نظرة، لا عزيمة لتثبت له أنه مخطئ في كل الأحوال، لا محاولة للتشاجر و التجادل أوالعناد ..
أين هي جويرية من كل ذاك ! ، ليست تلك هي الفتاة نفسها التي كانت قبل سنة تذهب وتأتي وعلى وجهها إبتسامة مشرقة، تضيء كونًا بأكمله …
ليست هي تلك التي ذهبت وتركتها قبل عام مغلفة بالحياة، صحيح هو يذكر أنه قبل أن يتركها كان حزن دفين يظلل عيناها لما حدث معها بعد تلك الفاجعة ولن ينسَ يومًا أن كان يرها دامعة العين حين يدخل عليها خلسة ..
لكنها كانت أقوى بكثير .. كانت تتحمل الحزن وتقول أنها بخير، وتجعل أقرب الأقربين يصدق الأمر إلاهُ ..
ولكنها الآن صارت مختلفة تمامًا، صارت هائمة الروح غائمة القلب .. صارت أُخرى !
كيف لها أن تسامحه كيف !، كيف لها أن تتناسى كل ما فعله غيابه عنها، وذلك الأثر العميق بأن أحد أقرب الأقربين إليها تخلى عنها !
كيف لإمرئ أن يتحمل خيانة وخَسارة داعمه الأكبر !
بل كيف لها هي أن تشرح له أن كل المبررات لن تكفي لتبرر فعلته ! ، لن تكفي أبدًا !
ضمها بقوة شديدة إلى قلبه، وهو يقول بثبات :
-جويرية، أنا بقولك كل اللي حصل دا كان خارج إرادتي، مكنتش عارف أتصرف
هزت رأسها عدة مرات نافية كل ما يقول، وبنبرة مختنقة قالت هي :
-واللي راح مني، وكل اللي واجهته لوحدي، إنت كدبت عليا لما قولتلي إنك عمرك ما هتسيبني لما أحتاجك !
أغمض عيناه بألم، وبدفئ النبرات أردف هو بـ :
-بس أنا مقدرتش أجيلك، والله ماقدرت، أنا كنت بتعذب لما أشوفك في مشكلة ومش عارف أقف جنبك !
تنهدت الأخرى بإنهاك، وأسندت رأسها على صدره، ولم تعد تريد الحديث، كفاها هذا العتاب، كفاها ذاك الألم، ولربما إن ضَعُفت قليلًا الآن هناك من يتحمل عنها !
وعند تلك النقطة .. شعرت ببعض السكينة تتسرب إلى قلبها وأغمضت عينيها تاركة لروحها العنان لتستمتع ببعض الدفئ الذي يحتويها …
لن تتحدث بعدها ..
ولن يطالبها هو بالمزيد .. فقط دقائق بين ذراعيه لربما تهدأ، أو يعيد إليها القليل من الماضي ….!!!