عصفورة تحدت صقر /للكاتبه فاطمه رزق
تشنجت قسمات وجهها، وبإنفعال شديد حركت يدها اليسرى عدة مرات، وهي ممسكة بالهاتف في اليد اليمنى ..
ثم وبعد أن نظرت بإحتقان لكل شيء حولها، أردفت بنبرة غاضبة عبر الهاتف بـ :
-براء، معتش تتصل بيا تاني إنت سامعني، ولا كأنك تعرفني خالص..
جاءها الرد عبر الهاتف بنبرة راجية، متوسلة بـ :
-جوري عشان خطري إهدي، وبعدين أنا من إمت كنت بسيبك لوحدك في أي مشكلة وآآآ ..
قاطعته هي بنبرة محتدة بعد أن تصلبت عيناها، وسارت خطوتين في الردهة المجاورة :
-هـه صح دا كان زمان، مكنتش تسيبني وتمشي بس الوقت أنا ولا حاجة بالنسبالك
صمتت قليلًا لتتابع بعدها بإختناق :
-معتش تتصل بيا تاني يا براء
كادت أن تنهي المحادثة بينهم، وبالفعل نزعت الهاتف عن أذنها إلا أنها سمعته يردد بعلو الصوت :
-إستني يا جوري، عشان خطري ماتقفليش..
زفرت هي بنفاذ صبر، بعد أن إحتقنت عينيها، وضمت ذراعها الحرة إلى صدرها، قبل أن ترد بإيجاز قائلة :
-عاوز إيه ؟
وصلها تنهيدته الحارة عبر الهاتف، ثم وبنبرة هادئة قال هو :
-يا حبيبتي إنتي عرفاني كويس، والله كانت ظروف اللي منعتني اجي، أو حتى أتصل ..
-طيب ماشي
قالتها بإقتضاب، وهي تلتفت بعينيها في أرجاء المكان، وتحرك ساقها بإتزان منفعل …
وحين وصله ردها المقتضب، تابع قائلًا بثبات :
-طيب مش مصدقاني أنا عارف، طيب أنا كدة كدة بكرة ….!!
قبل أن يكمل هو حديثه أغلقت بوجهه !
فهي لن تسامحه بكل تلك البساطة، هذا إن سامحته أصلًا، فلم تكن يومًا الدُمية التي ما إن أرادوا أخذوها وحين يفرغوا منها يلقوها ..
لا لم ولن وسوف لن يحدث هذا أبدًا ماحيِّيَتْ!
نظرت للهاتف بفتور وحزن واضحين، بيِيَّن، على قسماتها ..
وبعد أن سارت عدة خطوات في ردهة المشفى، متجهة إلى غرفة والدها، علت إبتسامة ساخرة وجهها، تسخر من حالها، وما صارت عليه!
أتلك هي حقًا الفتاة القوية، ذات الشخصية المرحة! لا بل تلك ليست إلا ظل بالٍ لها … ولأول مرة تشعر حقًا أنها يتيمة …
يتمة بالوحدة المسيطرة على قلبها،
وصلت أخيرًا غرفة والدها وبهدوء فتحت الباب،
ونظرت له نظرات العاجز عن تقديم المزيد، وقد عبَّرت نظراتها لحظتها عن مدى ما تشعر به من وهن وألم الآن ..
دلفت إلى الغرفة ولم تهمل إغلاق الباب خلفها، ثم إقتربت منه إلى أن وقفت على بُعد خطواتٍ من سريره ..
ووقفت تراقبه في هدوء، تراقب أنفاسه المنتظمة، وهدوءه الذي لم تعتده ..
تنهدت بحزن، ثم سارت متجهة إليه، وحين إقتربت منه … وضعت يدها على رأسه وقبلتها، ثم أمسكت يداه بكلتا يديها ..
وبنبرة حزينة أردفت بـ :
-بابا إنت سامعني ؟
صمتت قليلًا وهي تنظر إلى وجهه، ثم تابعت بإنكسار في قولها :
-أنا عارفة إنك سامعني، يلا بقى فوق عشان خطري، فتح عينك مش قادرة أتحمل كل دة ..
قبلت يده المستكينة بين يديها، وأردفت قائلة بإختناق :
-قوم يلا، دا أنا كنت هموت، ولما العربية قربت مني معرفتش أتحرك، مـ .. مكنتش قادرة أتحرك، لأول مرة يا بابا أحس.. أحس إني اتجمدت مش قادرة أمشي ولا أتحرك ومستنية مصيري المحتوم …
إبتسمت بتَرَحٍ رغم ما تعانيه وأكملت قائلة :
-على فكرة ماما زارتني في الحلم امبارح، وقالتلي إنها مش حاسة بالوحدة وفرحانة، يعني بالمختصر هي مش عاوزاك، أنا بس إللي .. إللي عاوزاك ..
…………………..
في مقر شركة صهيب قصي للسيارات ….
أمسكت فيروز سماعة الهاتف واضعة إياها على أذنها، بعد أن سمعت صوته يرن ..
وبنبرة هادئة عبره قالت :
-أيوة يا بيجاد بيه !
صمتت قليلاً لتستمع إلى الجانب الآخر، قبل أن تتغير تعابير وجهها إلى الفزع الشديد، وزلزل الرعب كيانها ..
بعدها أردفت قائلة بنبرة متحشرجة، متقطعة :
-طب .. طب حضرتك عاوز إيه، وأنا أبعتلك حد يجبهولك !
علا صوته عبر الهاتف هادراً بـ :
-بقولك فيه ملف مهم جداً مش لاقيه، تعالي شوفيهولي، مش دي وظيفتك برضوه !
تسارعت أنفاسها، وإختفى الدم من وجهها، حتى كادت تبكي من فرط الضغط النفسي الحاد الذي تمر به …
قالت بنبرة مذعورة :
-طب أبعتلك حـ آآآآ
قاطعها بنبرة لا تحتمل النقاش بـ :
-فيروز تعالي حالاً ..
-حـ… حاضر
أردفت بها حين وجدت أنه لا مفر من الأمر، ثم وضعت الهاتف على المكتب من جديد، وسارت في اتجاه مكتبه ..
كان مكتبه قرب مكتبها تماماً، ولكنها شعرت أنها لن تصل إليه إلا وهي جثة هامدة، الآن هي بالفعل خائفة .. تتذكر وادها حين تعهد بحمايتها، وحين كانت تبكي راكضة إليه إذا ما أصابتها شائبة ما ..
وطرح عقلها حينها هذا السؤال..
الآن من ذا الذي ينجيها من بطش رجلٍ أقل ما يقال عنه أنه متحجر القلب !
وقفت أمام مكتبه، ومدت يدها لتفتح الباب، ولكن قبل أن تصل يديها إلى المقبض …
-دخلة عنده ليه !
إستدارت سريعاً حين سمعت صوته الذي جاء كما الماء البارد إذا ما عتت النيران ..
-صـ صهيب باشا
قالتها هي بنبرة رُدَّ إليها الأمل، بعد أن فقدته
فأردف صهيب بنفس النبرة الهادئة :
-جاوبي !
نظرت له بإطمئنان، وبنبرة شبه طبيعية أردفت :
-هو كلمني وقالي ملف ناقص عنده و .. و عاوزني أدور عليه !
إحتدت نظراته، وأردف قائلاً بإحتقان :
-روحي إنتي شوفي شغلك، وأنا هشوفه ..
أومأت رأسها بسعادة سريعاً ثم ذهبت ..
أما هو فدلف إليه …
ما إن رآه بيجاد حتى إعتلت علامات الحيرة الممزوجة بالدهشة محياه ..
وبنبرة متسائلة أردف بـ :
-إنت مش قولت مش جاي !
لم يهتم له صهيب، بل إقترب من الأريكة المجاورة لمكتبه وجلس عليها، قبل أن يضع قدمه اليمنى فوق اليسرى ثم نظر له كما ينظر الصقر الجارح لفرائسه قبل إصطيادهم و ..
صهيب بنبرة هادئة :
-كنت عاوز إيه من فيروز ؟
تعلثمت نبرته وتشنجت عضلات وجهه وهو ينطق بـ :
-كان فيه ملف مش …
-ما بلاش كدة يا بيجاد !
تردد بيجاد وهو يسأله بنبرة منفعلة بـ :
-قـ… قصدك إيه !
زفر صهيب بنفاذ صبر، وحدجه بإحدى نظراته الساخطة وهو يقول :
-إحنا مش إتفقنا تسيب البت في حالها لو همك مصلحة الشركة ؟
نظر له بيجاد بضيق، ثم هتف قائلاً :
-وأنا معملتلهاش حاجة !
صمت صهيب قليلاً وهو يراقب تعابير وجهه المحتقنة، قبل أن يتابع مردفاً بـ :
-قولي إيه الملف إللي كان ناقصك ؟
إرتبك بيجاد وظلت نظراته مشتتة بين أرجاء الغرفة ودهاليزها، ولم يجد الجواب، فقرر أن يدافع عن نفسه بـ :
-دا .. ده ملف بتاع آآ … أنا مكنتش ناوي أجي جنبها …
وقف صهيب ثم سار متجهاً إليه، حتى وقف أمام مكتبه، ووضع يداه على ذاك المكتب وهو ينظرله بإشمئزاز …
ثم وبنبرة خفيضة أردف بـ :
-يعني إنت همك على الشركة دي !
إرتجف صوته، وأجاب بتعلثم بـ :
-آآآ … طبعاً هاممني
تجهم وجه صهيب أكثر، وأردف قائلاً بثبات :
-وأنا عشان كدة بقولك، فيروز خط أحمر …
-عشان مصلحة الشركة !
-أهـا
إبتعد صهيب عنه، وإقترب من النافذة في مكتبه، وظل يظر خلالها ..
ثم أضاف قائلًا بعدها بنبرة ساخرة :
-أنا واثق إنك هتهتم جداً بمصلحة الشركة و .. و هتفضل وفي ليها دايماً !
مشى صهيب الهويني إلى أن صار بمحاذاته، فنظر له بشموخ ثم تابع :
-صح !
كانت تعابير وجه بيجاد ممتعضة بعض الشيء وبها بعضاً من آثار الخوف الممزوج ببعض الإرتباك، فنعم هو يعرف أنه قد علم عن مخططه المحكم، ولكن المواجهة أصعب مما يتوقع !
ربما حياته على المحك الآن، ولم يدرك هو ذلك إلا في التو !
حاول جاهداً إخفاء ذاك الشعور بالإرتباك، والتحدث بنبرة تخلو إلا من الإتزان والهدوء ….
وقد نجح بعض الشيء فبنبرة متريثة بها القليل من الثقة أردف بـ :
-طبعاً يا … يا صهيب، وبعدين إنت عارفني يعني !
ظل يتابعه صهيب بنظرات قاتمة، على الرغم من نبرته الهادئة، فقد كان أكثر ما يميزه هدوءه المستفز، ونبرته التي لا تعبر عما يكمن بداخله، أو حتى نظرات عينيه، وحتى أن التلاعب بالأعصاب كان لعبة مسليه إذا ما أراد أن يضغط على أحد أعدائه ..
فأضاف صهيب قائلاً ليزيد من حدة الموقف :
-فاكر أشهب !
-مـ ماله !
نطق بها بيجاد بذعر جلي وقد تبدلت جميع ملامحه إلى الرعب الشديد ..
مسح صهيب على شعره مرة، ثم تخلله بأصابعه الأخرى، ومن ثم أنزل يده وضمها بجانب الأخرى إلى صدره ..
وبنبر خطيرة، محذرة أردف قائلاً :
-مفيش افتكرته فجأة بس، وبالذات لما هوخسر كل فلوسه، وبعدها دخل السجن مديون، عشان بس حاول يقف في طريقي ..
تسارعت أنفاس بيجاد وهو يتخيل نفسه عاري المال ! ، وقد خسر كل ما كان يملك من ثروات طائلة … كان الأمر بشعاً جداً حتى لمجرد التفكير في الأمر !
حاول الدفاع عن نفسه، وهو لا يريد كشف أوراقه، لا يريد أن يعلم هو أنه على دراية كاملة بمعرفته بالأمر ..
لربما إستطاع إخراج ذاك الشك من عقله وللأبد فقال بتردد :
-بس .. بس إنت ليه بتفكرني بكل ده، دا واحد حيوان و**** ، بس أنا مالي !
هز صهيب كتفه، وهو يقول بإستنكار :
-أبداً، بس كنت بفكرك .. كنت عاوز أعرف فاكر ولا لأ…!
ثم سار ناحية الباب وأمسك بالمقبض، وحانت منه إلتفاتة أخيرة قبل أن يتركه بما سببه له من تضارب في الشعور، ويرحل ….
وحين تأكد بيجاد من مغادرة صهيب إنتصب وسار جيئة وذهاباً أمام مكتبه عدة مرات، وهو متجهم الوجه، تظهر عينيه حقداً دفيناً لم تستطع أن تستره السنين، ثم وما إن توقف حتى ركل الركسي الذى أمامه بقوة شدية فأوقعه أرضاً، وتنفس عدة مرات بنفاذ صبر ..
وأردف قائلاً بعدها بنبرة تحمل الحقد :
-أنا هوريك يا صهيب، أنا هعرفك إزاي تتكلم معايا حلو، عشان أنا من صغري ماشي وراك، كنت دايماً بساعدك في كل كبيرة وصغيرة، وكنت بدعمك، لكن إيه جزائي في الآخر ! أتهان بكل بساطة عشان مجرد سكرتيرة !
إشتعلت عيناه بالغل أكثر وهو يتخلل خصيلات شعره بأصابعه الخمس جاذباً إياها من جذورها حتى كان يقتلعها ..
هدأت نبرته قليلاً جداً وهو يتشدق بـ :
-بس لأ يا صهيب مش أنا إللي بكلمتين أسكت، مش أنا اللي أتهان وأفضل واقف أتفرج على بقية كرامتي وهي بتتبعتر جنبك !
صر على أسنانه، وتحدث من بينها بنبرة تحمل الوعيد :
-مفكر لما تهددني هخاف وأقعد في جنب ! مستحيل حتى ولو عملت إيه مش هتراجع ويا أنا يا إنت يا صهيب ..
……………………..
واتاها النوم حينما كانت تستند برأسها على سريره، فتركت له المجال ليسرق روحها إلى مكان آخر خالٍ من العذاب، فلربما تستريح من عناء دنيا أشبعتا ألمًا وقهرًا ..
وفجأة شعرت بحركة غريبة بجانب وجهها، فإستيقظت على فورها ونظرت بجانبها، فوجدت يد والدها تتحرك ..
أسرعت ناظرة إليه، وهي تتحدث بنبرة عاد إليها بعض الأمل :
-بـ بابا، إنت سامعني !
كانت عيناه ترمشان وهو يحاول جاهدًا أن يفتحهما، فشعرت جويرية أن بعضاً من ذاك الشعور بالتفاؤل قد رُد إليها .. إستمرت في النظر إليه بعد أن أمسكت يداه وظلت تربت عليها.
وأردفت حينها بنبرة منفعلة :
-بابا رد عليا
حتى وأن تعابير وجهها كانت تدل على السعادة المختلطة بالقلق، و عيناها لمعتا ببريق فضي، وهي تنظر إليه لا تكاد تأخذ أنفاسها …
فتح عبد القدوس عينيه أخيراً بعد محاولات عديدة، ونظر لإبنته
حالما فتح عينيه إبتسمت بسعادة وإزاداد بريق عينيها، ثم وضعت إحدى يديها على شعره بعد أن سحبتها من على يده ومسحت على رأسه ..
وبنبرة حانية، لم تكد تخفي الأسى أردفت بـ :
-حرام عليك كل ده يا بابا، دا أنا كنت هروح فيها
إبتسم بصعوبة شديدة، بعد أن أغلق يديه على يديها، وبصوت مبحوح، متقطعٍ أردف بـ :
-بـ بـعد الشـر عليـ .. عليكي يا جوري، طب أنا كبرت خلاص !
نظرت له بضيق وبنبرة محتدة أردفة بـ :
-بابا متقولش كدة تاني، أنا راحة أنادي للدكتور
ثم وضعت يده الممسكةمحلها، لتتركه وترحل قاصدة الطبيب …
……………………
أمسك القداحة بعد أن إستقرت الغليونة في فمه، وأشعلها بروية وهو ينظر إلى السماء أمامه، نعم إن أيام العمر تجري بسرعة ونعم لم يستطع نيل مراده منها ..
وحتى ولو القليل من الأماني قد تحققت فقد إكتفى بها ولم يطلب المزيد !
راح فِكرُه إلى البعيد وتسربت عبرتان شريدتان من مآقيه، ترك لهما العنان ليهبطا حيثما أحبا ..
…….
كان نائمًا، بجانب الصغير صهيب، وفجأة واتاه إتصال، فإستيقظ من نومه وتناول هاتفه الموضوع على حاملة الأدراج بجانبه، ثم نظر للصغير النائم بجانبه وجعل هاتفه على الوضع الصامت لكي لا يزعجه، وأخذ الهاتف وخرج به من الغرفة ..
جلس على إحدى الأرآئك ونظر إلى الإسم المدون على الشاشة أمامه، فإمتعض وجهه، وقبل أن يرد كان الهاتف قد توقف عن الرنين…
ثم عاد ليرن من جديد، فأخذ نفسًا مطولًا وزفره بإنفعال ..
ومن ثم ضغط على زر الإيجاب، وبنبرة حادة أردف بـ :
-نعم !
أتاه الصوت عبر الهاتف مزعوراً قائلًا :
-رحيل مشوفتش صهيب، أنا مش لاقياه من امبارح !
نظر رحيل إلى الغرفة التى ينام فيها الصغير صهيب، وبنبرة هادئة أردف قائلًا :
-صهيب عندي من امبارح يا نوران
-نعم !
أردفت بها نوران عبر الهاتف بصدمة، فتابع هو مردفاً بـ :
-إنتي عملتي إيه، صهيب مش بيتكلم إلا لما يتهته، وخايف وعمال يترعش من امبارح، دة غير إنه مرضانيش أتصل بيكي خالص .
إضطربت نبرتها، ثم أردفت قائلة بتوتر :
-هو قالك إيه !
زفر بنفاذ صبر، وهو ينظر ناحية غرفته وقال :
-كل إللي بيقوله، بابي وأونكل معتز ومامي، وكلمة مات دي إللي مش فاهمها، وجبتله الدكتور قالي إتعرض لصدمة عنيفة !
تابع حديثه وقد خف إحتداد تعابيره، وظهرت بعض أمارات القلق وهو يقول :
-بس أنا قلقان عليه، قوليلي يا نوران إيه إللي حصل !
حينها خرج صهيب من الغرفة وهو يضم يداه إلى صدره ويبحث بعينيه عن أحد ما ..
وما إن رآه رحيل حتى أنهى المكالمة في التو بدون أن ينطق بحرف آخر وذهب إليه ..
نظر له صهيب وقال بنبرة هادئة :
-متسبنيش أنام لوحدي، أنا …
لم يمهله رحيل إنهاء جملته حتى حمله، وقبل وجنته مبتسمًا قبل أن يردف بـ :
-لأ طبعًا أنا كنت بشرب بس، إنت عطشان إجيبلك ماية !
هز الصغير رأسه بالنفي في الحال، وتشبث بعنقه من شدة الخوف، فذهب به رحيل إلى الغرفة ووضعه على سريره ثم إستلقى بجانبه ..
ظل يمسح على شعره بحنان، وهو يردف لنفسه غاضبًا بـ :
-مهو مش معقول تبقى حاجة بسيطة إللي وصلتك للحالة دي، وبعدين أنا إتصلت بجلال كتير مش بيرد وتليفونه مقفول، أنا بكرة لازم أعرف فيه إيه !
عدا ذلك لم يفهم هو ما تلك العاطفة التي تسيطر عليه حالما يرى ذلك الطفل !
فقد أحبه أكثر مما أحب أي أحد آخر في كل حياته !
………
أفاق من ذكرياته بعد أن أبعد الغليونة عن فمه، وبنبرة هادئة أردف بـ :
-حياته عمرها ما كانت طبيعية، يارب خرجوا من إللي هو فيه، أنا عارف إنه بيتوجع، وحاسس بيه، بس هو مبيرضاش يشارك همه مع حد !
واستطرد قائلًا بعد أن تنهد بأسى :
-إسعِده يارب، أنا عارف إني عملت ذنوب كتير في حياتي، بس أنا هتخلى عن كل عاداتي عشان تستجيب دعوتي، يارب أنا عارف إني مليش حق أدعي بيه، بس .. بس أنا في النهاية مجرد عبد مش معصوم وإنت رب العالمين، إنت إللي رحمتك وسعت كل الحدود والآفاق …
………………….
فحص الطبيب عبد القدوس بإهتمام بيّن، ثم أردف قائلًا بإبتسامة :
-لأ كدة صحتك عال العال الحمد لله إتحسنت كتير ..
إبتسمت جويرية للطبيب، ثم نظرت لوالدها وقالت بهدوء :
-الحمد لله
أومأ عبد القدوس رأسه، وهو ينظر إلى إبنته، ثم قال فجأة :
-وأقدر أخرج إمت يا دكتور ؟
ظل الطبيب بنفس الإبتسامة وهو يتحدث بروية بـ :
-لأ الخروج لسة شوية، أقل ما فيها أسبوعين ولا حاجة، عشان نتأكد إنك إتعافيت تمامًا.
قوس حاجباه في ضيق، وبنبرة معترضة قال :
-أسبوعين إيه يا دكتور بس كتير جدًا !
أكد الطبيب كلامه بـ :
-أصل حضرتك مش عندك السكر كدة من مفيش، ده حصل نتيجة للإهمال المفرط في صحتك !
نظرت له جويرية بضيق وهي تعقد حاجبها، قبل ذراعيها، ثم ..
وبنبرة جادة أردفت بـ :
-متقلقش يا دكتور هيفضل هنا لحد لما يخف تمامًا، وأنا هتأكد من ده ..
إبتسم لها الطبيب بود، بينما إمتعض وجه والدها، وتشنجت قسماته آبيه ما سمع !
وحينها أردف الطبيب محذرًا بهدوء :
-أهم حاجة ميزعلش، وميتعرضش لأي ضغوط مهما كانت نفسية أو جسدية ..
صمت قليلًا وهو يتفحصه بنظراته، قبل أن يضيف بنبرة طبيعية :
-ممكن الوقت تكون حاسس بـصداع أو رعشة، أو زغللة في عينك، بس كل دة من عوارض المرض، وأنا هبعتلك قايمة بالأكل إللي هتاكله اليومين الجايين، تمام !
أومأت جويرية رأسها وأضافت بنبرة هادئة :
-تمام يا دكتور، إنت بس قول إللي لازم يتعمل وأنا هعمله على طول
-تمام
أردف بها الطبيب بإتزان، ثم إتجه نحو الباب ليخرج بعد أن أضاف :
-طيب أنا همشي أنا.. أسيبكم لوحدكم شوية
وبعد أن ذهب الطبيب .. جلست جويرية بجانب والدها على الفراش، ونظرت له بضيق
فبادلها نفس النظرات، قبل أن يردف بنبرة محتقنة بـ :
-أسبوعين كتير أوي يا جويرية، إنتي عرفاني مبطقش الأماكن دي !
تنهدت جويرية بنفاذ صبر، ورمقته بإحدى نظراتها المحتقنة، وبنبرة مختنقة أردفت بـ :
-بابا، إنت أااه مش بتحب تقعد هنا، بس أنا مقدرش أتحمل إنك تروح مني لمجرد إنك مش بتحب تقعد هنا !!
أخرجت نفسًا حارًا من صدرها، وتابعت بنفس النبرة المختنقة قائلة :
-إنت متعرفش إيه إللي مريت بيه اليومين دول، عارف إحساس إن الدنيا كلها عليك !
لأ طب عارف لما تحس إن كل حاجة راحت من بين إديك !
كانت تتحدث وقد تصلبت عيناها في نقطة ما أمامها في تلك الغرفة، وقد أبيت تمامًا الإنصياع إلى ما في قلبها وذرف الدموع ..
أبيت إراحتها، ولو قليلًا
كيف لها أن تظهر ضغفًا أمام نفسها إن كان عليها تحمل كل قسوة العالم بقوة وحدها !
إعتدل عبد القدوس في جلسته وجذب يدها ليقربها منه، فساعدته هي على ذلك حتى إستقرت بين أحضانه الدافئة علها تلتمس بعضًا من دفئها فتسكن روحها ..
ظل يمسح عبد القدوس على شعرها بحنو، وقبل رأسها قبل أن يقول بنبرة حانية :
-أنا معاكي أهو مش هسيبك إن شاء الله ..
لم تقل هي شيئًا في المقابل، بل ظلت صامتة متشبتة به ..
متشبثة بآخر حبل في حياتها خِشية أن ينقطع.
أما هو فظل ينظر لها بين الحين والآخر ..
هو أكثر دراية بكل ما حدث لها، بل الأكثر دراية بما كانت عليه إبنته سابقًا، قبل ذاك التحول العظيم الذي طرأ عليها !
أغلق ذراعيه عليها، ليشعرها أنه معها الآن، وإلى جانبها …
ولنفسه، وبنبرة متأسية أردف قائلًا :
-أنا عارف إنك ملكيش غيري، وعارف إني لو روحت في أي وقت وسيبتك كدة لوحدك من غير سند ليكي مش هتقدري تعيشي، بس إنتي حتى مبتديش مجال لحد يدخل حياتك، إنتي ضايعة يا جويرية، ضايعة يا بنتي في الماضي ونفسي ألاقيكي …
تنهد في حزن، وعيناه قد أنذرتاه بلؤمٍ بالبكاء !
…………………
-إيييييه !!
صاح بها صهيب عبر الهاتف بعد أن إحتقنت عيناه وجفت الدماء في عروقه ..
واتاه الصوت هاتفيًا بنبرة مذعورة :
-يا باشا لازم تيجي حالًا، رحيل باشا أغمى عليه وبنحاول نفوق فيه مش بيفوق !
أردف صهيب بنبرة عالية ومنفعلة، وهو يمسك بالمقبض ويفتح الباب بعد أن قام من على مكتبه وسار نحوه :
-طب .. طب كلمتوا الدكتور !
جاءه الرد عبر الهاتف مؤكدًا بـ :
-أيوة يا باشا، وهو في الطريق الوقت
مضى هو في ذلك الوقت أمام فيروز، فنادته وهي تراه يغادر :
-صهيب باشا، يا باشا !
لم يجب عليها، بل على الأرجح لم ينتبه !
قوست حاجبها مستعجبة، ثم وبدون قصد منها وقع نظرها على مكتب بيجاد، فشعرت بالذعر يجتاح كيانها لمجرد فكرة أنهما وحدهما مع العمال اللذين هم بالأسفل ولا يصعدون إلا لتسليم الأوراق …
وبنبرة خوف أردفت بـ :
-ربنا يستر ولو مشيت الوقت الباشا ممكن يخصم مرتبي كله، المفروض أنا اللي براقبه !
وجدت هاتفها النقال يرن، فإلتقطته بسرعة ونظرت إلى اسم المتصل قبل تضغط على زر الإيجاب وترد سريعًا …
-ألو ! أيوة يا ماما
توقفت عن الحديث لتستمع إلى الجانب الآخر، قبل أن تقول بهدوء :
-يعني خالي هياخدك عشان تسافري البلد معاه !
أومأت رأسها ثلاث مرات، ثم إبتسمت ليخرج صوتها طبيعيًا وقالت بمرح زائف بعدها :
-أيوة بقى يا عم
صمتت قليلًا قبل أن تردف بصوت شبه طبيعي بـ :
-لأ مش هينفع أجيلكوا النهاردة، بس متنسيش تاخدي الدوا بتاعك كامل تمام !
………………….
فتح صهيب باب سيارته على عجالة ..
وبعد أن ركب قادها بأقصى ما لديه من سرعة وقد إضطربت جميع مشاعره في تلك اللحظة ..
لا لن يحدث له مكروه
كان عقله ينطق بها طوال الوقت، فإنه الشخص الوحيد ..
لا بل الأوحد في كل تلك الدنيا مَن .. مَن وقف إلى جانبه في كل وقت قد إحتاج إليه فيه .. بل لم يتركه للحظة ……
تحرك ذلك الشيء الذي في قلبه تجاه عمه، بل تجاه من رباه طيلة حياته وأحبه وإعتنى به كما لم يفعل أحد من قبل !
وما إن وصل لتلك النقطة حتى أسرع بسيارته أكثر كما الإعصار ……………………..