عصفورة تحدت صقر /للكاتبه فاطمه رزق
في المقر الرئيسي لشركات صهيب قصي للسيارات ….
داخل مكتب صهيب الخاص …
رنا بيجاد صهيب طويلاً، وهو يعبث ببعض الأوراق التي أمامه غير آبهاً به، قبل أن يدنو منه قليلاً بخطىً هادئة ثم ..
بيجاد بنرة هادئة :
-عجبتك النهاردة صح ؟
لم يرفع صهيب نظره عنه، بل ظل كما لم يسمع شيئاً، وإستمرت يداه بالتحرك بين رزم الأوراق و المستندات أمامه، تارة يوقعها، وتارة يتفحصها ..
زفر بيجاد بضيق جراء تلك المعاملة الجافة التي يتلقفها منه، ثم وبخطوات محسوبة بدأ يقترب منه إلى أن سحب ذلك الكرسي المجابه لمقعده أمام المكتب وجلس عليه بهدوء ثم …
تنحنح بيجاد بخفوت ليعلن عن وجوده للمرة الألف في ذاك اليوم، ثم وبلا مقدمات أردف بنبرة شبه متّزنة بـ :
-إحم … صهيب إنت هتفضل كدة كتير !!
صمت قليلاً وهو يتابع حركات يده المتكررة على تلك الأوراق، وَدَّ لو يقتلعها الآن من يده ويمزقها إرباً، لكي ينتبه له ولو قليلاً ..
أضاف قائلاً بنبرة أكثر إتّزاناً :
-صهيب أنا بكلمك على فكرة، ثم إني ملمستهاش ولا كلمتها كلمة من بعد لما إنت كلمتني، وإنت حتى النهاردة مقولتليش رأيك في إللي عملته عشان الصفقة تنجح، و… آآ ..آآآ
-لخص عاوز توصل لإيه ؟
قاطعه صهيب بتلك النبرة الجافة، بعد أن رفع عينيه من على الأوراق، ليرمقه ببشم ..
بيجاد بنبرة متعلثمة :
-آآ مش عاوز أوصل لحاجــة أنا أقصد بس إن، أنا كنت عاوز نرجع زي الأول …
ظل صهيب يرمقه لدقيقة بنظراته الجامدة، الجليدية، ثم عاود النظر إلى الأوراق، بعد أن أردف قائلاً بنبرة هادئة :
-لسا مش دلوقت، لما أتأكد منك …
زفر الآخر بضيق وهو يتابع ردوده المستفزة، ثم ألقى نظرة على الأوراق أمامه و …
بيجاد بنبرة شبه طبيعية، وهو يتظر للأوارق أمام صهيب :
-دي أوراق إيه ؟
-الشركة السعودية
-أهــا ..
صمت لبرهة قبل أن يتابع بنبرة أكثر حذراً بـ :
-إيه رأيك في إللي عملته النهاردة فى الــ meeting ؟
أومأ صهيب رأسه، ولم ينظر له ..
نظر له بيجاد بإحتقان قبل أن يردف لنفسه بنبرة متوعدة :
-ماشي يا صهيب، إما وريتك مبقاش أنا بيجاد ..
-هدّي نفسك شوية مش كدة …
نطق بها صهيب ساخراً، وهو يرى آثار الإمتعاض جلية على وجهه …
نظر له بيجاد بضيق، وهو ينتصب واقفاً ويعلن بصوت عالٍ بـ :
-أنا ماشي ..
-إقفل الباب وراك …
ركل بيجاد الأرض بكل قوته غضباً قبل أن يفتح الباب، ويغادر صافقاً الباب خلفه بقوة ..
نظر صهيب للباب، ثم أعاد النظر للأوراق وهو يقول بنبرة ساخرة :
-غبي ..
…………………
كانت تسير بخطىً هادئة، تنظر بوجوم شديد إلى كل ما حولها، إلى المتجر الذى تمر بجواره، إلى الأطفال الذين يلعبون بالكرة في الشَارَع، إلى الحصى التى ركلتها بقدمها تواً، إلى تلك المرأة المتسولة التى تطلب منها المال، إلى كل شيء..
كل شيء….
هل سبق لها حقاً أن شعرت بأن الحياة قد ذبلت، لا بل لم تذبل بل ماتت تماماً .!!
لقد شعرت بأسوأ ما قد يشعر به بشريّ بعد فقدانها من كانت بمثابة الحياة بالنسبة لها ..
لكن الأسوأ، أن الحياة حتى بعد أن ماتت بعينها ترفض تركها ..
بل ترفض تماماً ..
والأكثر سوءا،ً أن من تعيش هي حياتها الباقية لأجله، راقد على إحدى الأَسِرة غائب عنها، وعن الحياة جميعها ….
لما هي على قيد الحياة حتى الآن ؟، لتتعذب ربما ..!!
بل لما هي تمشي بين الأحياء الآن بعد أن خبت الحياة بها …!!
ركلت حصى أخرى كانت أمامها بالطريق بعد أن كادت تقع حين سارت فوقها، وظلت تمشي ببطئ على نفس المنوال، إلى أن ..
إصطدمت بها تلك الكرة التي جاءت من حيث لا تحتسب، فكادت أن تقع، ولكنها تماسكت ورفعت رأسها بسرعة قبل أن تزل قدمها، ثم ظلت تنظر للكرة أمامها قليلاً، قبل أن تمد يدها .. وتمسك بها ..
يا الله، حتي أن تلك الكرة قد ذكرتها بصباها، وكم كانت من أيام رائعة !!
كانت تركض خلف أطفال الحي وهي تركل الكرة، لقد كانت هي وأصدقائها الفتيات يتبارون .. يتبارون مع فريق الصِبيان، كل يوم حين تقرر تلك النجمة فى الأعالي أن تضيء بذلك الوهج الأصفر، وتذكرت أيضاً تلك الأهداف التي كانت تحرزها واحداً تلو الآخر، هل من الممكن أن حياتها قد فنيت بعد ذلك !؟
كم كبرت الآن وصار عليها التحمل، كم صار عليها أن تتعايش مع كل تلك الآلام المضنية كل دقيقة في حياتها الفانية، كـم ….!!!
-طنط، طنط لو سمحتي ممكن الكورة !!
نطق بها ذلك الطفل الصغير، مرتسماً تلك الإبتسامة العذبة على وجهه، مخرجاً إياها من غياهب أفكارها المظلمة ..
نظرت له وإبتسمت.. فنظر الطفل إلى أصدقائه في الجهة المقابلة، وأومأ لهم برأسه باسماً، وكأنه يعدهم أن الكرة ستكون بين يديهم بعد قليل ..
تابعت هي ملامح ذلك الصغير وهو ينظر لزملائه فى الجهة الأخرى، وطرح عقلها ذلك السؤال المحير …
هل كنت بكل بتلك البراءة يوماً ؟ ، بمجرد إبتسامة جافة أشعر بالرضى ؟ ، هل لا يعود بوسعي أن أرجع كطفلة من جديد ؟ …
-ممكن
مدت يدها له بتلك الكرة وهى تردف بتلك الكلمة بنبرة حانية ومن ثم أعطته إياها وقد شعرت أن ذلك الطفل ولو قليلاً .. أشعرها ببعض التحسن ..
وحينها سارع الصغير بالركض نحو أصدقائه ممسكاً بالكرة، تاركاً على محياها إبتسامة تأبى الإكتمال ..
رحلت حينها، وكأنها قد وجدت ما يحثها على المضي قدماً …
سمعت هاتفها النقال يضج بالصوت، فأخرجته من حقيبتها، ونظرت إلى شاشته ..
ثم أجابت بعد أن تنهدت بأسى …
-السلام عليكم ..
أتاها الصوت عبر الهاتف، مردفاً بنبرة طبيعية بـ :
-وعليكم السلام، والله يا جوري وحشتينى أوي ..
جويرية بنبرة شبه طبيعية :
-وإنتي كمان يا روز ..
روز بنبرة مرحة :
-إيه بقى لحقت أوحشك ومن الصبح بتتصلي، وإنتي عارفة إني بكون في الشغل ..
وضعت جويرية يدها على رأسها، للحدّ من نوبة الدوار التي إجتاحتها فجأة .. ولم تجبها …
بل لم تستطع …
زفرت روز عبر الهاتف بضيق ثم ..
روز بنبرة جادة :
-مالك يا بت صوتك عامل كدة ليه ؟
هزت رأسها بالنفي عدة مرات، ونظرت مطولاً إلى السماء فوقها وهي تقول بنبرة مضطربة :
-مفيش، أنا كويسة، بس ممكن تعمليلى خدمة ..
أتاها صوت رفيقتها سريعاً، مردفاً بنبرة مؤكِدة بـ :
-إنتي لسا هتسألي .. قولي طبعاً …
-فاكرة لما قولتيلي إن واحدة صاحبتك قالتلك تروحي تشتغلي معاها، وتسيبي الشغل دة …!!
روز هاتفياً بنبرة طبيعية :
-قصدك تالا لما قالتلي أشتغل طباخة في فيلة معاها ؟
أومأت جويرية رأسها، قبل أن تردف قائلة :
-أيوة، الشغل دة بقى لو لسـة موجود أنا عاوزاه ..
قالت روز حينها بنبرة غاضبة :
-لأ طبعاً مش هسيبك تشتغلي عند حد و ..آآآ
قاطعتها جويرية بنبرة لا تحتمل المزيد من الجدال بـ :
-معلش يا روز هتقل عليكي ..
أتاها صوت روز بنبرة أقل غضباً مردفة :
-هو أنا بتكلم على إنك هتتقلي عليا، بطلي غباء، أنا بس كل الحكاية مش عاوزاكي تشـ…
جويرية مقاطعة بنبرة أكثر إضطراباً :
-معلش يا روز محتاجة الشغل دة جامد، وبعدين أنا مش هشتغل خدامة، أنا بس كل الحكاية هطبخلهم …
…………………….
توقفت سيارة بيجاد أمام ذلك الملهى الليلي، ولم تمضِ ثوانٍ قبل أن يترجل هو من سيارته ويغلق الباب بعدها تاركاً إياها، ومتجهاً نحو مدخل الملهى …
جاءه رجلٌ منتفخ الصدر، أسود البشرة، ذو بأسٍ شديد، يرتدي تلك البِزة الرسمية السوداء …
قال الرجل حين وقف أمامه، بصوتِ هادئ :
-ممكن المفاتيح يافندم …!!!
أعطاه بيجاد المفتاح، ودلف هو إلى الداخل ..
ظل يجوب المكان بناظريه ما إن وصل، وعلى وجهه تلك الإبتسامة الشهوانية ..
تفرس هو أجساد تلك الراقصات الاتي يتمايلن بأجسامهن لإثارة ذوي الأنفس المريضة، الذين يعملون عبيداً تحت ميول غرائزهم الحيوانية …
-أممممم أما جامدة بشكل ..
قالها بيجاد وهو منغمس بالنظر إلى تلك الفاجرة، البعيدة، ..
أجبر بيجاد عينه أن تنصرف عن تلك الراقصة، وظل ينظر حوله إلى أن وجد أحدهم يلوح له من بعيد، فسار نحوه ..
وقف الرجل الذي كان يلوح لـه حين وجده أمامه، ورفع يده في الهواء وهوى بها على كفه بعد أن بسطها بيجاد ..
بيجاد بنبرة طبيعية :
-عاش من شافك يا عٌقاب، كنت واثق إني هلاقيك هنا ..
ضحك عُقاب بصوتٍ عالٍ، وأردف قائلاً بنبرة خبيثة :
-تلاميذك يا معلم ..
أصدر بيجاد ضحكة خفيفة وقد ركز عينيه على إحدى الراقصات المثيرات، فظر عُقاب حيث ينظر هو، وإبتسم الأخير إبتسامة تنم عن خبث دفين، ثم ..
عُقاب بنبرة هادئة :
-لأ بص الناحية التانية دي، البت دي جامدة أوي ..
نظر بيجاد إليها، ثم أردف بنبرة إعجاب، وهو يتفرس جسدها :
-تسدق دا أنا علمتك صح أوي
ثم تابع وهو يقترب منها، بنبرة مغيبة :
-المهم إطلبلنا إتنين على ذوقك أعبال ما أسلم ..
ضحك عُقاب، وهو يتجه إلى مكان إحضار المشروبات ليعلن عن طلبه ….
……………………..
في المقر الرئيسي لشركات صهيب قُصيّ للسيارات ….
داخل مكتب صهيب الخاص ….
-إدخل ..
أردف بها صهيب ليسمح للطارق بالدخول، ولم تفارق عيناه ذلك الحاسوب الذي يتمم عمله داخله ..
دلفت فيروز ممسكة بإحدى يديها مستنداً أزرق اللون، وباليد الأخرى فنجاناً من القهوة الذي وضعته على مكتبه حال دنوها منه ..
أعطته ذلك المستند مصحوباً بإبتسامة مجاملة، ثم ..
فيروز بنبرة طبيعية :
-دة المستند إللي حضرتك طلبته، تؤمر بحاجة تانية يا باشا ؟
لم تكد تنهي حديثها حتى أشار لها بيده لتنصرف، ولم يزيح عينيه عن حاسوبه ..
أومأت فيروز رأسها مرتين قبل أن تنصرف ..
ظل صهيب يتفحص ذلك المستند بعد أن أنهى عمله على الحاسوب …
جحظت عيناه، وتبدلت ملامحه إلى الغضب الشديد، حين وصل إلى نقطة ما داخل تلك الورقة الممسك بها، وأعاد قراءتها مراراً حتى يتأكد مما تلاه حالاً .. وحين تأكد مما قرأ قام بـ….
فتح أحد المجلدات على حاسوبه الخاص، ثم ضغط بالفأرة على مستند ما داخله، وظل يقارن بعينيه الثاقبتين ما دون في كليهما ..
وحين تأكد من وجود خطأ ما … بسرعة وبدون تردد ….
أمسك الهاتف بإحدى يديه الإثنتين وهاتف السكرتيرة قائلاً بنبرة نارية :
-فيروز، تعالي هنا حالاً ..
ثم أغلق الهاتف حتى قبل أن يسمع ردها عليه …
زفر صهيب بشدة وهو ينظر إلى تلك الورقة الممسك هو بها، وبنبرة مشتعلة أردف بـ :
-مين المسؤل عن دة، فيروز مستحيل تعملها، طب مين ..!!!
ما هي إلا ثوانٍ معدودة، وسمع صوت طرقات الباب ..
فأردف آمراً بإنزعاج بـ :
-إدخلي …
دلفت فيروز بخطىً سريعة إلى أن وقفت أمامه، ثم ..
فيروز بنبرة هادئة، ونظرات قلقة :
-نعم يا باشا ؟
نظر لها صهيب وقد علت علامات الغضب وجهه، و …
أخرج صهيب الكلمات من بين أسنانه، وهو ينطق بـ :
-حد مسك الـ voucher (مستند) دة غيري وغيرك ؟؟
أجابت فيروز على الفور، بنبرة قلقة :
-لأ يا باشا، حضرتك عارف إني مستحيل أعطيه لحد، وبشتغل عند حضرتك من زمان .. يعني مجربني …
نظر لها بضيق شديد، ثم ألقى نظرة أخرى على ذلك المستند قبل أن يرفع يده إليها ويهزها بعلامة النفي ثم ….
صهيب بنبرة غاضبة :
-إسكتي، وحاولي تفتكري أي حد مسكه غيرك ..
كادت أن تنفي مرة أخرى لكنها تذكرت شيئاً ما فصمتت ..
نظر لها صهيب بتفحص، قبل أن يردف متسائلاً بنبرة أقل غضباً :
-هــاا إفتكرتي …!!!
أومأت فيروز رأسها مرتين، ثم وضعت يدها على جبهتها لكي تتذكر ماحدث معها قبل عدة أيام ثم …
فيروز بنبرة جادة، رغم تحشرجها :
-آآآ أيوة يا باشا، من كام يوم لما حضرتك خرجت من الشغل، وقولتلي أعين الملفات دي، إجالي تلفون من بعض العملاء وإضطريت أتأخر شوية …
صمتت فيروز قليلاً لتبتلع ريقها، وترقب ردة فعله، الهادئة على غير العادة، ثم تابعت هي بنبرة أكثر توتراً :
-ولما خلصت التليفون روحت على مكتب حضرتك ولقيت بيجاد بيه هناك، و …
-و إيــــه ..!!
قالها صهيب بنبرة حادة، ليحثها على المتابعة ..
فأضافت فيروز بنبرة متعلثمة :
-وأول ما شافني إتوتر جداً، ولما سألته بيعمل إيه هنا !!، قالي إنك قولتله على شغل يعمله، ولما خرج لقيت المستند دة مفتوح، فقفلته ورتبت الحاجة وخرجت …
رمقها صهيب بنظرات مشتعلة، متأججة، قبل أن يردف بنبرة حادة بـ :
-أنا كام مرة قولتلك إن الـ voucher دوناً عن أي واحد غيره مهم جداً، ومينفعش حد يشوفه أبداً، دة فيه كل ميزانية الشركة، ولولا إني محتفظ بنسخة إضافية كان فاتنا الوقت ….
إشتعلت عيناه بوهج غريب، وكأنه بدأ بربط أحد الحدثين سوياً في عقله، فرفع يديه لها مسترجعاً الأحداث وتذكز أمراً ما ..
……………………..
-لخص عاوز توصل لإيه ؟
قاطعه صهيب بتلك النبرة الجافة، بعد أن رفع عينيه من على الأوراق، ليرمقه ببشم ..
بيجاد بنبرة متعلثمة :
-آآ مش عاوز أوصل لحاجــة أنا أقصد بس إن، أنا كنت عاوز نرجع زي الأول …
…….
وبالعودة إلى الواقع ..
وضع صهيب يده على رأسه ورحلت ذكراه من جديد إلى …
…….
دلف صهيب مكتبه ذلك اليوم، وتفاجأ برؤية بيجاد جالساً على كرسيه الخاص، وبمجرد أن فُتح الباب حتى إنتفض بيجاد على إثره، ووقع منه ملفاً ما كان يحمله بيده ..
نظر له صهيب مدهوشاً من وجوده بمكتبه حينها، وبنبرة متسائلة أردف بـ :
-بتعمل إيه هنا …!!!
إرتبك بيجاد وظهر ذلك جلياً بين قسمات وجهه، وأجابه بنبرة متعلثمة قائلاً :
-آآآ .. أبداً آآ.. أنا بس كل الحكاية، آآآ ..
جاب ببصره المكان للبحث عن الكلمات المناسبة، أو إستجماع جملة مفيدة، ثم تابع بنبرة حاول وزنها قدر المستطاع :
-آه بص، كنت نسيت حاجة هنا امبارح وجيت أجيبها ..
…….
وحين عاد صهيب من تلك الذكريات وقف في حاله، مردفاً بنبرة متوعدة بـ :
-أيوة، أنا كنت واثق إن فيه حاجة مش مظبوطة، بيجاد أحب أقولك إنك فتحت على نفسك أبواب جهنم …
…………………….
داخل الملهى الليلي …
صاح بيجاد عاليا بنبرة متفاخرة وهو يتجرع رشفة أخرى من كأس الخمر الممسك هو بــه :
-مستحيل يكتشف أصلاً حاجة زي كدة، وحتى لو إكتشف أنا بعيد جداً عن التهمة ..
قهقه عُقاب ساخراً، وأردف بإستنكار وهو يمد يده نحو الطاولة ليمسك بالكأس :
-إنت دماغك دي تودي في داهية، المهم إنت واثق إنك هتّخسره كدة !!
-طبعـــًا، دة أنا هخلي شركته مش في الأرض وبس، لأ تحت الأرض كمان، و…
كاد أن يتابع إلا أنه سمع صوت هاتفه يرن، فأخرجه من جيب سترته، ونظر إلى إسم المتصل ..
إمتعض وجهه، وتشنجت قسماته وهو يرى ذلك الإسم، ثم ترك الهاتف على الطاولة، و ….
بيجاد بنبرة منزعجة :
-أووووف بقى ..
-مين !!!
تسائل بها عُقاب بفضول شديد ..
بيجاد وهو ينظر إلى الهاتف قبل أن يعاود النظر مرة أخرى إلى عُقاب :
-حماتي …
بضيق زائف أردف عقاب بـ :
-ودي عاوزة إيه هي كمان ..!!!!!
-أكيد هتسألني عن بنتها، عشان أنا مانع عنها التليفون لحد ما تظبط كدة ..
أجاب الأخير وهو يرتشف من كأسه رشفة كبيرة :
-أااه والنبي ما ينفع معاهم إلا كدة، نسوان آخر زمن …
……………………..
أمام إحدى المشافي الحكومية ……
داخل الغرفة التى يقبع بها عبد القدوس …..
نظرت جويرية إلى والدها المنعزل عن العالم أجمع، وبدأت أنفاسها تختنق رويداً رويداً ….
قالت لنفسها بنبرة مختنقة، وهي تتابعه بنظراتها :
-أنا لازم أوديه مستشفى خاص، من الصبح وهو هنا ومفيش أي تغير في حالته .. وكمان حاسة إن صحته بتتراجع ….
وقفت حينها وإتجهت نحو حقيبتها الموضوعة على طرف السرير، وأمسكتها، ثم فتحتها وبدأت تخرج منها النقود التي بها، ثم …
جويرية بعد أن أخذت نفساً عميقاً :
-الفلوس إللي معايا دي، وكمان أنا شايلة قرشين في البيت، وغوشتين دهب أبيعهم، النهاردة، وبكرة أنقله على المستشفى الخاص ..
رمقت حينها والدها بحزن، ثم وضعت النقود داخل الحقيبة، وأعادت وضها على السرير قبل أن تقترب منه، وتضع يدها على وجهه ثم ..
جويرية بنبرة حانية :
-مش هتأخر عليك يا حبيبي إن شاء الله، هروح بس أجيبلك الفلوس عشان أنقلك مستشفى أحسن من المستشفى القذرة دي ..
قبلت رأسه حينها، ثم سحبت يدها وكادت أن تذهب، لكنها إلتفتت إليه مرة أخرى وأضافت بنبرة راجية :
-لما ماما ماتت، أنت بس إللي عشت عشانه، بس يوم ما هيحصلك حاجة، إتأكد إني هروح وراك ..
صمتت، قليلاً قبل أن تضيف قائلة بنبرة مختنقة :
إنت بس إللي باقيلي يا بابا ..
نزعت بعدها حقيبتها وأخذتها في يدها، قبل أن تخرج، وتغلق الباب خلفها بهدوء …
حين خرجت من المشفى، سارت في الطريق الرئيسي الذي يقود إلى منزلها ..
ولكنها حين بدأت تعبر الشارع، ووقفت في منتصف الطريق، دنت منها سيارة قادمة من بعيد بسرعة مهولة، وحين رأتها جويرية نظرت لها بفتور ولم تبتعد ..
تيبست قدماها.. ولم تبذل هي أدنى جهد في تحريكهما ..
وكأن غريزة البقاء قد إنطفأ وهجها داخلها .. وكأن الحياه قد فنيت لديها، لم تخف وهي ترى الموت يقترب .. لم تخف وهي ترى الحياه تودّعها ..
ولما قد تخاف …..!!!
إذ أن ذاك ما أرادته …
سألت نفسها .. هل يمكن أن تكون الحياه رحيمة بها فتجهز على بقيتها الباقية ؟
ظلت تنظر للسيارة وهي تقترب أكثر فأكثر، وتركت لنفسها العنان لتفكر، كيف حياتها بعد الموت .. هل هي أفضل ؟
هل لن تمر بكل تلك الآلام وتتحملها وحدها ؟!!
أرادت إنهاء تلك الحياه إن كانت تلك هي الطريقة الأسهل لوأد الألم داخل سريرتها …
تمنت ذلك حقاً ….
أغمضت عينيها، وبسطت ذراعيها نحو تلك السيارة القادمة صوبها .. ، بل نحو الطريق إلى
خَلاصِها………………