وسقطت ورقة التوت (كاملة)
الفصل الثاني
معذرة إن انقطعت عن الكتابة لبرهة في أسطر مفكرتي لعدم استطاعتي البوح بالمزيد، كنت بحاجة لجمع شتات نفسي واستعادة جأشي لأستمر في معركتي المصيرية، اعتزلت كل شيء واكتفيت بالدعاء في صلاتي ومناجاة المولى عله يرفق بي ويرحمني من تلك المعاناة الدائمة، فأنا على يقين بأن دعوة المظلوم مجابة حتى وإن طال وقت الاستجابة، ربما من يتطلع إلى حياتي من الخارج سيحسدني معتقدًا أني أنعم في الثراء وترف العيش، لكن من يتغلغل في أعماق ما أمر به حتمًا سيشفق علي، لن ننكر أن المشكلات تحدث بداخل العائلة الواحدة، حيث يختلف فيها أفرادها في الرأي وتحتد النقاشات بينهم، لكن أن يكون وقودها المستمر هو الحقد والغل والغيرة، فتلك توليفة مهلكة أنجانا الله جميعًا منها.
-أصلك غيرانة مني!
تلك العبارة المقيتة التي ترددها “س” على مسامعي لتشعرني بأني أقل شأنًا منها، خاصة إن تفوقت – عمومًا – في إنجاز شيء ما لا يخصها، ورغم كوني كما أشرت من قبل على قدر من الجمال والخُلق إلا أن مقياس الجمال عندها مرهونًا بالقدرة على الرد القوي واللاذع، أتجاهلها مجبرة، فلا بديل لي غير ذلك، ففي بعض الأحيان تعجز عن إيجاد الكلمات المناسبة لتردع شخص ما قد أساء إليك وقتها، أما هي فإنها تفوقك براعة، تستلذ بإبراز مهاراتها في إيصال الواقف قبالتها للخروج عن شعوره وبلوغ ذروة غضبه في ثوانٍ معدودة، وكأن في ذلك متعة خفية تشعرها بسطوتها وقوتها، حاولت قدر استطاعتي ألا أحتك بها، أن أتجنب ردودها الفظة إن شاءت الأقدار أن أكون ضحيتها، وإن اضطررت للرد يكون حديثي مقتضبًا وعامًا لا يمسها بسوء، حاولت التصرف بحنكة لكنها ظنت أن في ذلك دهاء مني، لذا كان ردها الساخر:
-طول عمرك سوسة!
*****
أذكر في إحدى المرات أن “س” افتعلت مشكلة كبيرة لكوني أنادي والدتها بـ “طنط”، تلك الكلمة الشائعة التي نلقب بها من هن أكبر منا عمرًا كنوعٍ من الاحترام والتقدير بالإضافة إلى الود والألفة، هتفت متعمدة شحن غضبها ضدي وكأنها تضيف الوقود على النيران لتزداد ألسنتها وهجًا:
-مستكبرة تقولك يا ماما، شايفة؟
نظرت إلى عينيها الماكرتين فوجدت خبثًا لا يضاهيه شيء، اعترضت مبررة موقفي بحذرٍ:
-أبدًا والله، بس أنا متعودة مقولش ماما إلا لمامتي وبس
لوت “س” ثغرها متابعة بنفس اللؤم الشيطاني لتحفزها ضدي:
-شكلنا مش أد المقام
حركت رأسي بالنفي وأنا أرد بجمود مصطنع:
-لا خالص
اقتربت من والدتها أطوق كتفيها بذراعي، وبالأخر أربت على كفها المسنود على فخذها، قبلت رأسها، ثم ابتسمت قائلة بلطفٍ لأبدد أي بادرة بغض تلوح في الأفق:
-حقك عليا يا … ماما
وكوني قد وجدت صعوبة في لفظها لغير تلك التي أفنت عمرها لأجلنا إلا أنها كانت السبيل لنجاتي من ذلك المأزق الحرج، التفت برأسي لأحدق في وجه “س”، كانت تنظر لي شزرًا، حافظت على بسمتي الباهتة حتى لا أمنحها الفرصة لاستثارة أعصابي من جديد.
*****
أنيت بنفسي وبزوجي عن الكثير مما يُحاك ضدنا، أوصدت باب منزلي على مشكلاتي الخاصة رافضة إقحام أي فرد من عائلتي أو عائلته في صغائر الأمور، كنت أظن بذلك أني أحافظ على عماد البيت، وهم أعدوه ضعفًا، فما عرفته لاحقًا أني كنت الضيفة الأساسية على مأدبة ثرثرة نساء العائلة، فلم تكف “س” و “ص” عن الإساءة لي في غيابي، وبات أمرًا مقبولاً أن يتطرقن بلا سابق إنذار لحياتي الخاصة وإن كان ذلك بالغيبة أو النميمة، تجاهلت كل ذلك لأن زوجي كان معي، يدعمني، يدافع عني، لا يصدق أكاذيبهن، كان حينما يفيض به الكيل يقول باستياء محبط:
-سيبك من كلامهم ده، مش هيودي ولا هايجيب، أنا عارف إنتي إيه كويس
احتوى حديثه على مخدرٍ لأوجاعي، مسكنٍ لآلامي، ففوضت أمري للمولى ليرد غيبتي عني، وسددت أذناي عن أقاويلهن الظالمة، أذكر اتصال والدته لي ذات مرة وعلى غير عادتها في وقت الظهيرة، فوقتها كنت قد انتهيت لتوي من طهي طعام الغذاء، سألتها بهدوء رغم جدية نبرتي:
-خير يا ماما؟
ردت بغموضٍ جعل عقلي يرتاب:
-انزليلي يا “نهلة”، عاوزاكي عندي ضروري
-حاضر
قلتها بلا تفكير وأنا أدعو الله في نفسي أن تكون الأمور بخير، ارتديت عباءتي على عجالة وهرعت إلى منزلها بالطابق الأول، التقطت أنفاسي متسائلة بتلهفٍ بعد أن ولجت للداخل:
-في حاجة حصلت؟
ردت ببرود اتفق مع وجهها الممتقع:
-عاوزاكي تساعديني في ترويق البيت، محدش موجود يساعدني، وزي ما إنتي شايفة البيت يضرب يقلب
تلفت حولي لألقي نظرة شاملة على محتويات المنزل، كان أغلب ما فيه فوضويًا يحتاج لإعادة تنظيم، ناهيك عن كم الأشياء الملاقاة بإهمال حولك وكأن حربًا قد اندلعت بالمكان، أحنيت رأسي على صدري بتعب وأنا أخرج تنهيدة مطولة من صدري، هكذا الأمر إذًا، هي بحاجة لمن يساعدها في تنظيف المنزل بعد انصراف بناتها بصحبة أزواجهن وصغارهن للاستمتاع بالخارج، حاولت ألا أظهر ضيقي كي لا تتخذ الأمر ذريعة لخلق مشكلة ما، وتدعي تقاعسي عن أداء مهامي كزوجة مرتبة محبة للنظافة والنظام، فهكذا عُرف عني منذ أول يوم وطأت فيه منزلهم، شمرت عن ساعدي قائلة باستسلام:
-حاضر، هاروح أجيب المكنسة وأروق البيت!
ابتسمت قائلة بتأويهة مرهقة وهي تضع يدها على منتصف خصرها:
-طيب أما تخلصي ناديني، أنا هافرد ضهري ربعاية كده على السرير لأحسن مش قادرة خالص، أه يا مفاصلي
نظرت لها بأعين محتقنة غيظًا مانعة سبة تقاتل للخروج من جوفي للتعبير عن سخطي، من المفترض أننا سنتعاون سويًا، لكنها ألقت بالحمل كله على كاهلي لأهلك وحدي في تنظيف ما ليس لي، خارت قواي مع انتهائي من أخر مهمة لي به، حيث أفرغت النفايات في الصندوق المخصص لها بجوار باب المنزل، رفعت رأسي للأعلى لأجد بناتها عائدات وصوت الضحكات المجلجلة يصدح في الأجواء، أظلمت نظراتي نحوهن خاصة حينما نطقت “ص” باستخفاف وكأني خادمتها الشخصية متناسية أني زوجة أخيها:
-إنتي لسه مخلصتيش؟
رددت بغضب ظهر في نبرتي:
-والله لو لاقيت اللي يساعدني كنت خلصت، بس أنا لوحدي وبأروق بيت ماما!
اندفعت للأمام متعمدة لكزي في كتفي وهي تمرق للداخل دون أن تمنَّ عليَّ بكلمة شكر واحدة، تبعتها أختها “س” وباقي العائلة داعسين بأحذيتهم المتسخة الأرضية النظيفة التي مسحتها قبل قليل، لم يرفقوا بمجهودي الذي بذلته، ولم يشفقوا على تعبي الواضح للعيان، بل تعمدوا إضاعة ما بذلته وأفنيت طاقتي فيه هباء ليتضاعف حنقي بداخلي، حاولت تهدئة نفسي، لكني فشلت، فكنت أحترق كالبارود وأنا أراهم يعيثون في المنزل الخراب، لم أتحمل المشهد فجرجرت أذيال خيبتي خلفي وعدت إلى منزلي باكية، فأي عذاب بعد ذلك يمكن احتماله؟
*****
كثيرات منا تحلم بأن يرزقها الله مولدًا يشبه زوجها أو حتى يمتلك سماته وخصوصًا إن كانت تعشقه، منحني المولى تلك النعمة في بداية زواجي وبلغت سعادتي عنان السماء حينما علمت أني أحمل في أحشائي جنينًا سيخرج للعالم ليناديني بأحب الألقاب وأغلاها “أمي”، للأسف لم تكتمل فرحتي، فكثرة الضغوطات النفسية في الفترة الأولى من الحمل عرضتني للإجهاض، لجأت للطبيب النسائي ليساعدني آنذاك، لكن مات وليدي قبل أن تكتب له الحياة، فأعطاني بعض الحبوب لتساعد في نزول الدماء الفاسدة من رحمي، ورغم ذلك ظلت بقاياه عالقة بداخلي ترفض التخلي عني، كانت من أصعب اللحظات التي مرت عليّ، أن أخسر قطعة ثمينة مني تمنيتها هكذا وببساطة، طمعت أن يخلفني الله خيرًا منه، وتمسكت بذلك الأمل فرحمته أوسع من كل شيء، يومها لم أعد إلى منزلي، أشفق عليَّ زوجي وطلب من رفيقاتي المقربات القدوم إليّ والترويح عن نفسي الملتاعة، فالخطب جلل بالتأكيد، كان موفقًا في اقتراحه فوجودهن معي هون من قسوة الخسارة، نعم ففي رفقة الأحباء رحمة خفية.
صادفت يومها “س” وهي تتجول برفقة ابنتها، لم تكن على علم بإجهاضي، لذا لم تأخذها بي شفقة معتقدة أني ألهو مع صديقاتي وأمرح، نظرت لي بغل لم تخفيه متأملة ما معي من مأكولات اشترتها لي الرفيقات، تحدثت من زاوية فمها قائلة بامتعاض ساخط:
-اتفسحي واتبسطي يا حبيبتي، عقبالنا احنا كمان
ربتت على كتفي بقوة فتألمت بصوت خفيض، شعرت بتلك النغصة العنيفة تعصف بأسفل معدتي، كنت أخوض معركة حامية الوطيس في داخلي، دافعت عني إحدى صديقاتي لكنها كانت سليطة اللسان معها، بت في موقف حرج للغاية، اعتذرت من رفيقتي بأسفٍ شديد، ثم استدرت برأسي لأحدث “س” قائلة بعتابٍ:
-مايصحش كده، عيب عليكي!
رمقتني بنظرة أخيرة تحمل البغض متفوهة بالمزيد من الحماقات قبل أن تتركني وتنصرف ساحبة ابنتها المتذمرة خلفها، استشعرت في نفسي كارثة وشيكة، لذلك عدت إلى منزلي وأنا متوجسة خيفة من شر تلك الحقود ومقاومة الآلام التي تفتك بي، أخبرت زوجي بصدامنا، لكن حدث ما كنت أخشاه، وقامت الدنيا ولم تقعد، وجدت والدة زوجي تدق باب منزلي ليلاً لتمطرني بوابل من الكلمات القاسية والاتهامات المجحفة، فابنتها قد ادعت بالباطل أني قابلتها بفتور ورفضت شراء الحلوى لصغيرتها، دافعت عن نفسي باستماتة المظلوم المقهور بعد أن أصبحت في مواجهتها:
-قسمًا بالله ما حصل، ده هي كانت ….
قاطعتي هادرة بصوتها المرتفع رافضة الإنصات لي ولتسمع الجيران فضائحنا:
-مستخسرة تجيبي للعيلة أكل، إنتي إيه مش بني آدمة، خلي في قلبك شوية رحمة
اعتصرت الآلام المبرحة أسفل معدتي بشراسة، أحسست أن جزءًا من رحمي ينفصل عن جسدي من قسوة ما ألقاه على يدها من عذاب نفسي وبدني مستمر، كتمت أوجاعي المهلكة في نفسي، لكن عكس وجهي المحتقن بصورة مخيفة ما يحدث بداخلي، شعرت فجأة بتدفق الدماء من جسدي ملوثة الأرضية من أسفلي، شهقت وأنا ارتجف خوفًا من هول المنظر، نظرت لي بصدمة ولم تظهر شفقتها أو حتى تعاطفها معي، بل على العكس مصمصت شفتيها قائلة ببرود:
-أنا بأقولك كده عشان متكرريش الحكاية دي تاني، سلام!
خفق قلبي بقوة وأنا استغيث بزوجي لنجدتي، فالأخير كان في موقف لا يُحسد عليه، بين مطرقة أمه وسندان حياتنا التي باتت على المحك، فَزِع لرؤيتي هكذا وأنا غارقة في دمائي القاتمة ومستندة على عتبة الباب، أكاد أكون بين الهذيان واللا وعي، أسرع يحملني إلى أقرب مشفى ليتم إسعافي قبل أن أهلك بين ذراعيه، تلقيت هناك الرعاية اللازمة ومكثت به حتى تعافيت إلى حد ما، أتعتقدون أنها اكتفت بعد ذلك؟
*****
معذرة إن انقطعت عن الكتابة لبرهة في أسطر مفكرتي لعدم استطاعتي البوح بالمزيد، كنت بحاجة لجمع شتات نفسي واستعادة جأشي لأستمر في معركتي المصيرية، اعتزلت كل شيء واكتفيت بالدعاء في صلاتي ومناجاة المولى عله يرفق بي ويرحمني من تلك المعاناة الدائمة، فأنا على يقين بأن دعوة المظلوم مجابة حتى وإن طال وقت الاستجابة، ربما من يتطلع إلى حياتي من الخارج سيحسدني معتقدًا أني أنعم في الثراء وترف العيش، لكن من يتغلغل في أعماق ما أمر به حتمًا سيشفق علي، لن ننكر أن المشكلات تحدث بداخل العائلة الواحدة، حيث يختلف فيها أفرادها في الرأي وتحتد النقاشات بينهم، لكن أن يكون وقودها المستمر هو الحقد والغل والغيرة، فتلك توليفة مهلكة أنجانا الله جميعًا منها.
-أصلك غيرانة مني!
تلك العبارة المقيتة التي ترددها “س” على مسامعي لتشعرني بأني أقل شأنًا منها، خاصة إن تفوقت – عمومًا – في إنجاز شيء ما لا يخصها، ورغم كوني كما أشرت من قبل على قدر من الجمال والخُلق إلا أن مقياس الجمال عندها مرهونًا بالقدرة على الرد القوي واللاذع، أتجاهلها مجبرة، فلا بديل لي غير ذلك، ففي بعض الأحيان تعجز عن إيجاد الكلمات المناسبة لتردع شخص ما قد أساء إليك وقتها، أما هي فإنها تفوقك براعة، تستلذ بإبراز مهاراتها في إيصال الواقف قبالتها للخروج عن شعوره وبلوغ ذروة غضبه في ثوانٍ معدودة، وكأن في ذلك متعة خفية تشعرها بسطوتها وقوتها، حاولت قدر استطاعتي ألا أحتك بها، أن أتجنب ردودها الفظة إن شاءت الأقدار أن أكون ضحيتها، وإن اضطررت للرد يكون حديثي مقتضبًا وعامًا لا يمسها بسوء، حاولت التصرف بحنكة لكنها ظنت أن في ذلك دهاء مني، لذا كان ردها الساخر:
-طول عمرك سوسة!
*****
أذكر في إحدى المرات أن “س” افتعلت مشكلة كبيرة لكوني أنادي والدتها بـ “طنط”، تلك الكلمة الشائعة التي نلقب بها من هن أكبر منا عمرًا كنوعٍ من الاحترام والتقدير بالإضافة إلى الود والألفة، هتفت متعمدة شحن غضبها ضدي وكأنها تضيف الوقود على النيران لتزداد ألسنتها وهجًا:
-مستكبرة تقولك يا ماما، شايفة؟
نظرت إلى عينيها الماكرتين فوجدت خبثًا لا يضاهيه شيء، اعترضت مبررة موقفي بحذرٍ:
-أبدًا والله، بس أنا متعودة مقولش ماما إلا لمامتي وبس
لوت “س” ثغرها متابعة بنفس اللؤم الشيطاني لتحفزها ضدي:
-شكلنا مش أد المقام
حركت رأسي بالنفي وأنا أرد بجمود مصطنع:
-لا خالص
اقتربت من والدتها أطوق كتفيها بذراعي، وبالأخر أربت على كفها المسنود على فخذها، قبلت رأسها، ثم ابتسمت قائلة بلطفٍ لأبدد أي بادرة بغض تلوح في الأفق:
-حقك عليا يا … ماما
وكوني قد وجدت صعوبة في لفظها لغير تلك التي أفنت عمرها لأجلنا إلا أنها كانت السبيل لنجاتي من ذلك المأزق الحرج، التفت برأسي لأحدق في وجه “س”، كانت تنظر لي شزرًا، حافظت على بسمتي الباهتة حتى لا أمنحها الفرصة لاستثارة أعصابي من جديد.
*****
أنيت بنفسي وبزوجي عن الكثير مما يُحاك ضدنا، أوصدت باب منزلي على مشكلاتي الخاصة رافضة إقحام أي فرد من عائلتي أو عائلته في صغائر الأمور، كنت أظن بذلك أني أحافظ على عماد البيت، وهم أعدوه ضعفًا، فما عرفته لاحقًا أني كنت الضيفة الأساسية على مأدبة ثرثرة نساء العائلة، فلم تكف “س” و “ص” عن الإساءة لي في غيابي، وبات أمرًا مقبولاً أن يتطرقن بلا سابق إنذار لحياتي الخاصة وإن كان ذلك بالغيبة أو النميمة، تجاهلت كل ذلك لأن زوجي كان معي، يدعمني، يدافع عني، لا يصدق أكاذيبهن، كان حينما يفيض به الكيل يقول باستياء محبط:
-سيبك من كلامهم ده، مش هيودي ولا هايجيب، أنا عارف إنتي إيه كويس
احتوى حديثه على مخدرٍ لأوجاعي، مسكنٍ لآلامي، ففوضت أمري للمولى ليرد غيبتي عني، وسددت أذناي عن أقاويلهن الظالمة، أذكر اتصال والدته لي ذات مرة وعلى غير عادتها في وقت الظهيرة، فوقتها كنت قد انتهيت لتوي من طهي طعام الغذاء، سألتها بهدوء رغم جدية نبرتي:
-خير يا ماما؟
ردت بغموضٍ جعل عقلي يرتاب:
-انزليلي يا “نهلة”، عاوزاكي عندي ضروري
-حاضر
قلتها بلا تفكير وأنا أدعو الله في نفسي أن تكون الأمور بخير، ارتديت عباءتي على عجالة وهرعت إلى منزلها بالطابق الأول، التقطت أنفاسي متسائلة بتلهفٍ بعد أن ولجت للداخل:
-في حاجة حصلت؟
ردت ببرود اتفق مع وجهها الممتقع:
-عاوزاكي تساعديني في ترويق البيت، محدش موجود يساعدني، وزي ما إنتي شايفة البيت يضرب يقلب
تلفت حولي لألقي نظرة شاملة على محتويات المنزل، كان أغلب ما فيه فوضويًا يحتاج لإعادة تنظيم، ناهيك عن كم الأشياء الملاقاة بإهمال حولك وكأن حربًا قد اندلعت بالمكان، أحنيت رأسي على صدري بتعب وأنا أخرج تنهيدة مطولة من صدري، هكذا الأمر إذًا، هي بحاجة لمن يساعدها في تنظيف المنزل بعد انصراف بناتها بصحبة أزواجهن وصغارهن للاستمتاع بالخارج، حاولت ألا أظهر ضيقي كي لا تتخذ الأمر ذريعة لخلق مشكلة ما، وتدعي تقاعسي عن أداء مهامي كزوجة مرتبة محبة للنظافة والنظام، فهكذا عُرف عني منذ أول يوم وطأت فيه منزلهم، شمرت عن ساعدي قائلة باستسلام:
-حاضر، هاروح أجيب المكنسة وأروق البيت!
ابتسمت قائلة بتأويهة مرهقة وهي تضع يدها على منتصف خصرها:
-طيب أما تخلصي ناديني، أنا هافرد ضهري ربعاية كده على السرير لأحسن مش قادرة خالص، أه يا مفاصلي
نظرت لها بأعين محتقنة غيظًا مانعة سبة تقاتل للخروج من جوفي للتعبير عن سخطي، من المفترض أننا سنتعاون سويًا، لكنها ألقت بالحمل كله على كاهلي لأهلك وحدي في تنظيف ما ليس لي، خارت قواي مع انتهائي من أخر مهمة لي به، حيث أفرغت النفايات في الصندوق المخصص لها بجوار باب المنزل، رفعت رأسي للأعلى لأجد بناتها عائدات وصوت الضحكات المجلجلة يصدح في الأجواء، أظلمت نظراتي نحوهن خاصة حينما نطقت “ص” باستخفاف وكأني خادمتها الشخصية متناسية أني زوجة أخيها:
-إنتي لسه مخلصتيش؟
رددت بغضب ظهر في نبرتي:
-والله لو لاقيت اللي يساعدني كنت خلصت، بس أنا لوحدي وبأروق بيت ماما!
اندفعت للأمام متعمدة لكزي في كتفي وهي تمرق للداخل دون أن تمنَّ عليَّ بكلمة شكر واحدة، تبعتها أختها “س” وباقي العائلة داعسين بأحذيتهم المتسخة الأرضية النظيفة التي مسحتها قبل قليل، لم يرفقوا بمجهودي الذي بذلته، ولم يشفقوا على تعبي الواضح للعيان، بل تعمدوا إضاعة ما بذلته وأفنيت طاقتي فيه هباء ليتضاعف حنقي بداخلي، حاولت تهدئة نفسي، لكني فشلت، فكنت أحترق كالبارود وأنا أراهم يعيثون في المنزل الخراب، لم أتحمل المشهد فجرجرت أذيال خيبتي خلفي وعدت إلى منزلي باكية، فأي عذاب بعد ذلك يمكن احتماله؟
*****
كثيرات منا تحلم بأن يرزقها الله مولدًا يشبه زوجها أو حتى يمتلك سماته وخصوصًا إن كانت تعشقه، منحني المولى تلك النعمة في بداية زواجي وبلغت سعادتي عنان السماء حينما علمت أني أحمل في أحشائي جنينًا سيخرج للعالم ليناديني بأحب الألقاب وأغلاها “أمي”، للأسف لم تكتمل فرحتي، فكثرة الضغوطات النفسية في الفترة الأولى من الحمل عرضتني للإجهاض، لجأت للطبيب النسائي ليساعدني آنذاك، لكن مات وليدي قبل أن تكتب له الحياة، فأعطاني بعض الحبوب لتساعد في نزول الدماء الفاسدة من رحمي، ورغم ذلك ظلت بقاياه عالقة بداخلي ترفض التخلي عني، كانت من أصعب اللحظات التي مرت عليّ، أن أخسر قطعة ثمينة مني تمنيتها هكذا وببساطة، طمعت أن يخلفني الله خيرًا منه، وتمسكت بذلك الأمل فرحمته أوسع من كل شيء، يومها لم أعد إلى منزلي، أشفق عليَّ زوجي وطلب من رفيقاتي المقربات القدوم إليّ والترويح عن نفسي الملتاعة، فالخطب جلل بالتأكيد، كان موفقًا في اقتراحه فوجودهن معي هون من قسوة الخسارة، نعم ففي رفقة الأحباء رحمة خفية.
صادفت يومها “س” وهي تتجول برفقة ابنتها، لم تكن على علم بإجهاضي، لذا لم تأخذها بي شفقة معتقدة أني ألهو مع صديقاتي وأمرح، نظرت لي بغل لم تخفيه متأملة ما معي من مأكولات اشترتها لي الرفيقات، تحدثت من زاوية فمها قائلة بامتعاض ساخط:
-اتفسحي واتبسطي يا حبيبتي، عقبالنا احنا كمان
ربتت على كتفي بقوة فتألمت بصوت خفيض، شعرت بتلك النغصة العنيفة تعصف بأسفل معدتي، كنت أخوض معركة حامية الوطيس في داخلي، دافعت عني إحدى صديقاتي لكنها كانت سليطة اللسان معها، بت في موقف حرج للغاية، اعتذرت من رفيقتي بأسفٍ شديد، ثم استدرت برأسي لأحدث “س” قائلة بعتابٍ:
-مايصحش كده، عيب عليكي!
رمقتني بنظرة أخيرة تحمل البغض متفوهة بالمزيد من الحماقات قبل أن تتركني وتنصرف ساحبة ابنتها المتذمرة خلفها، استشعرت في نفسي كارثة وشيكة، لذلك عدت إلى منزلي وأنا متوجسة خيفة من شر تلك الحقود ومقاومة الآلام التي تفتك بي، أخبرت زوجي بصدامنا، لكن حدث ما كنت أخشاه، وقامت الدنيا ولم تقعد، وجدت والدة زوجي تدق باب منزلي ليلاً لتمطرني بوابل من الكلمات القاسية والاتهامات المجحفة، فابنتها قد ادعت بالباطل أني قابلتها بفتور ورفضت شراء الحلوى لصغيرتها، دافعت عن نفسي باستماتة المظلوم المقهور بعد أن أصبحت في مواجهتها:
-قسمًا بالله ما حصل، ده هي كانت ….
قاطعتي هادرة بصوتها المرتفع رافضة الإنصات لي ولتسمع الجيران فضائحنا:
-مستخسرة تجيبي للعيلة أكل، إنتي إيه مش بني آدمة، خلي في قلبك شوية رحمة
اعتصرت الآلام المبرحة أسفل معدتي بشراسة، أحسست أن جزءًا من رحمي ينفصل عن جسدي من قسوة ما ألقاه على يدها من عذاب نفسي وبدني مستمر، كتمت أوجاعي المهلكة في نفسي، لكن عكس وجهي المحتقن بصورة مخيفة ما يحدث بداخلي، شعرت فجأة بتدفق الدماء من جسدي ملوثة الأرضية من أسفلي، شهقت وأنا ارتجف خوفًا من هول المنظر، نظرت لي بصدمة ولم تظهر شفقتها أو حتى تعاطفها معي، بل على العكس مصمصت شفتيها قائلة ببرود:
-أنا بأقولك كده عشان متكرريش الحكاية دي تاني، سلام!
خفق قلبي بقوة وأنا استغيث بزوجي لنجدتي، فالأخير كان في موقف لا يُحسد عليه، بين مطرقة أمه وسندان حياتنا التي باتت على المحك، فَزِع لرؤيتي هكذا وأنا غارقة في دمائي القاتمة ومستندة على عتبة الباب، أكاد أكون بين الهذيان واللا وعي، أسرع يحملني إلى أقرب مشفى ليتم إسعافي قبل أن أهلك بين ذراعيه، تلقيت هناك الرعاية اللازمة ومكثت به حتى تعافيت إلى حد ما، أتعتقدون أنها اكتفت بعد ذلك؟
*****
يتبع >>>>>>