وسقطت ورقة التوت (كاملة)
(وسقطت ورقة التوت)
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
الفصل الرابع والأخير
مرت الأشهر وغدت مشكلاتي تكبر مثل وليدي الأول، فبت أحاسب على كل ما يصدر مني طالما أنه لا يتفق مع أهواء عائلة زوجي بالرغم من حفاظي على وجود ذلك الحاجز بيننا، تعلمت البرود وصار من طبائعي المكتسبة بعد ذلك، بل حتى التجاهل أصبح أحد أهم أسلحتي لمواجهتهم، لكن نساء العائلة لم تدعني وشأني، بتن يتدخلن عن عمد في كافة شئوني، وأيضًا فيما يخص رضيعي، فقط لإزعاجي وكأنهن بذلك يرسخن في ذهني رسالة صريحة أنهن بالفعل يمتلكن زمام أمري حتى وأنا أقاطعهن، ضجرت من تدخلهن السافر في حياتي، من تحكمن الزائد في أبسط حقوقي كشراء ما ينقصني مثلاً.
أتدرون أني اكتشفت مصادفة أن ما أطلبه من البقال لابد أن يعرج على والدته أولاً لتعرف تحديدًا ماذا اشتريت مبدية سخطها منه ثم تعيد إرساله لي؟ أتصدقون حدوث هذا بكل تلك الوقاحة واللا مبالاة بردة فعلي إن علمت بما فعلته؟ هي تعبث بما لا يخصها فقط لإغاظتي، نعم في عرفها لا خصوصية على الإطلاق، وكل شيء مباح ومن حقها أن تطلع عليه حتى لو كانت صغائر الأمور، وبالطبع كانت بناتها على نفس الشاكلة، فأجدهن يتنمرن ساخراتٍ عليَّ بما اشتريته معلنين صراحة أني أقع لقمة سائغة أُطحن بين ضروسهن، لم أعد احتمل، فاض بي الكيل، فتجادلت مع زوجي لإبعادهن عني، لكنه لم يكترث بما أسماه تذمراتي البائسة، بل وعنفني آنذاك بانفعالٍ:
-أنا مش عارف أركز في حاجة، لا في بيت ولا في شغل، تعبت من المشاكل دي حرام عليكي
نظرت له مذهولة بأعين تنحبس الدمعات فيها، الدفة تدار عكس اتجاه التيار وأتحول للملامة دومًا، لم أرغب في البكاء أمامه فيرمقني بنظراته المزعوجة التي تتهمني في صمت بأني ألجأ لتلك الحيلة لأكسب تعاطفه، فوالدته قد أقنعته بذلك، اغرورقت حدقتاي أكثر بالعبرات حينما تابع بعصبيةٍ:
-مش عارف أراضي مين فيكم، إنتي ولا أهلي!!
حبست أنفاسي لأضبط انفعالاتي المتأثرة لكن تلك النظرة القاسية منه أجبرتني على البكاء خاصة حينما اتهمني علنًا:
-وإنتي لو حد داسلك على طرف بتولعيها، هاتفضلي لأمتى عايشة في دور المظلومة؟ ارحميني!
لم أستطع بلع اتهامه الظالم دون أن أدافع عن نفسي، ولم يكن السكوت بالخيار المتاح لي، رددت عليه منفجرة ببكاء مرير:
-إنت مش بتشوف اللي بيعملوه فيا؟ للدرجادي جاي عليا؟!
رد صارخًا ومهددًا بيده:
-قولتلك ماتحطهومش في دماغك، متركزيش معاهم، إنتي ليكي أنا وبس، والحمد لله أنا مش مقصر معاكي، عاوزة إيه تاني؟!
تراجعت خطوة للخلف لأنأى عن أي خطر قد يطالني منه في حالة خروجه عن شعوره، كفكفت عبراتي وأنا أرد بنبرة تحمل الخذلان:
-وإنت كمان اتغيرت معايا؟
صرخ بي بقوةٍ أجفلت بدني:
-من كتر النكد اللي معيشاني فيه، الواحد بيتجوز علشان يرتاح مش علشان يجيب وجع القلب لنفسه، وإنتي بقيتي ماسورة نكد
رددت بنحيب وأنا أرمقه بنظراتي الحزينة وقد اعتصر الألم قلبي المصدوم في قسوته معي:
-يعني أنا السبب؟
لا أعرف ما الذي أصابه لكن ربما مازال لعبراتي بعض التأثير عليه، نظر لي بندمٍ مبعدًا وجهه الشاحب عن نظراتي التي تلومه، هدأت نبرته وخبت عصبيته وهو يجيبني بحذرٍ:
-إنتي اللي حساسة زيادة على اللزوم، وبتفهمي المواضيع غلط، كفاية مبالغة واتعاملي معاهم عادي!
-بعد كل ده؟
رددت بتلك العبارة لنفسي لأرثيها، لكني لم أجد تفسيرًا لما قاله إلا أني أصبحت الظالمة في نهاية المطاف، ناكرة الجميل التي لا تقبل اليد الممدودة لها بالخير، المتعجرفة التي تقابل الإحسان بالإساءة، تحسرت على حالي وأنا أجد نفسي موضوعة ظلمًا في مكان لا يخصني، ابتعدت عنه فما سيقال بعد ذلك لا جدوى منها، بل وربما يحمل الخسارة لكلانا.
*****
انزويت في غرفة الرضيع أبكي مثله متألمة، رفعت بصري للسماء وأنا أضمه إلى صدري أشكو المولى عله يسمع دعائي من فوق سبع سماوات، نمت يومها مفطورة القلب، مليئة بالهموم والأحزان متذكرة كل إساءة تعرضت لها معهن، إن استسلمت لإحباطاتهن سأهلك عما قريب، عقدت يومها العزم على البقاء قوية من أجل صغيري، لن أنهار وسأكافح لأبقي عائلتي بعيدة عنهن، هداني تفكيري المتعمق لأمرٍ لم أحاول تجربته من قبل، شعرت بالحماسة تجتاحني وأنا أرتب أفكاري لأعرضها على زوجي، انتظرت اللحظة المناسبة لأفاتحه فيما عقدت النية عليه قائلة:
-عارف الحل لكل اللي احنا فيه ده هو إننا نبعد عن هنا
سألني بغرابة واضحة على تعبيرات وجهه:
-قصدك إيه؟
أجبته بهدوءٍ حذر مترقبة ردة فعله:
-يعني نبيع الشقة ونمشي
اتسعت حدقتاه مرددًا بذهول:
-إيه؟ نبيعها؟!!
تأملت ردة فعله بخوفٍ وقلبي يدق بعنفٍ، لكني استجمعت شجاعتي موضحة:
-أيوه، طول ما إحنا عايشين وسط العيلة مش هانخلص أبدًا من المشاكل يا حبيبي، لا هما هيبعدوا عني، ولا أنا هارتاح من اللي بيعملوه معايا، فكر فيها وهتلاقيه الحل المناسب للكل
بدا مصدومًا وهو يردد على مسامعي:
-إنتي بتقولي إيه؟
اقتربت منه مؤكدة بحماسٍ انعكس في نبرتي:
-صدقني هنرتاح كلنا
استخدمت أسلحتي الأنثوية في إيصال فكرتي إليه، نظر لي مليًا دون أن ينبس بحرفٍ، فتعشمت يومها خيرًا بوجود بارقة أمل تلوح في الأفق مع صمته الذي طال، كان مقتنعًا إلى حد ما باقتراحي لأسباب كثيرة عايشها معي، ربما يكمن الخلاص في الرحيل والبعد عن بؤرة الصراعات التي لا تنتهي، بقي لي الضغط عليه برفق لأجعله يرى الأمور من منظوري، أفضت في الحديث واسترسلت موضحة له السلام الذي سيعم على الجميع مع الإقدام على تلك الخطوة الحاسمة، لم يقاطعني، وكانت تلك بادرة أخرى طيبة، في الأخير تنهد قائلاً باستسلام:
-سيبيني أفكر في الموضوع ده!
رقص قلبي طربًا مع كلماته التي أثلجت صدري وروت عطشي بعد سنين عجاف، أخيرًا سأنعم بالسُكنى إلى جوار زوجي بعيدًا عن ذلك العذاب النفسي الذي أرق مضجعي لفترة طويلة، استبشرت خيرًا لنجاحي في التأثير عليه، وتعشمت أن تأتي نتائج الأمور كما خططت، وعدني “زوجي” بعد أن اقتنع باقتراحي بمفاتحة عائلته – وخاصة والدته –ورغم اعتراضي على ذلك لكونه شأننا الخاص إلا أني احتفظت بضيقي بداخلي، وشجعته على المضي قدمًا فيه، كنت متحمسة فعليًا للانتقال من ذلك الجحيم حتى لو سكنت في منزلٍ متواضعٍ في حي شعبي، انتظرت على أحرٍ من الجمر نتيجة لقائه معها، ظللت أعد الثواني بشغفٍ وتوهمت أن الجميع سيسعد بذلك معتقدة أنه بابتعادي عن أفراد عائلته سنرتاح جميعًا.
للأسف لم تدم فرحتي طويلاً وتبخرت أحلامي الوردية، فمع عرضه لذلك الاقتراح على والدته قامت الدنيا ولم تقعد، اشتعلت الأجواء في الوسط، ولم تبقِ الأمر بيننا، أكاد أجزم أنها كانت تتعمد الصراخ على الدرج بأعلى نبراتها لتوهم الجيران بأني الزوجة الشريرة الجاحدة القاسية المتسلطة التي تسعى بخطوات شيطانية لقطع الرحم مع من وهبته لَبنِها، استندت بظهري على باب منزلي مصغية لصراخها المتشنج وهي تنعتني بأبشع الألفاظ، سددت أذني باكية بحسرة على ضياع حلمي وإهانتي من جديد، لم أعِ ما الذي حدث بعد ذلك، فقد انهارت قدماي من هول الصدمة وفقدت وعي لأكتشف بعدها أني أحمل في أحشائي طفلي الثاني.
*****
لنقل أن ذلك الخبر الصادم لي أنجاني من معركة قاسية مع والدة زوجي مؤقتًا، أو أجل لحظة المواجهة، فقد حذر الطبيب النسائي من خطورة الضغوطات النفسية في تلك المرحلة الأولى من الحمل خاصة حينما اكتشف التهديدات الحرجة التي يمكن أن تلحق الأذى بالجنين إن بقيت حالتي النفسية في أدنى مستوياتها، وبالطبع ألغيت فكرة الانتقال إلى مسكن أخر حتى لو كان مستأجرًا، لاحقًا حاول زوجي ترميم التصدعات الموجودة مع عائلته آملاً أن تتحسن العلاقات الطيبة – إن وجدت – بيننا، لكننا كنا نعلم في قرارة أنفسنا أنها لم ولن تكون ودية أبدًا، ظل الوضع متأرجحًا بين شدٍ وجذب حتى أنجبت صغيري الثاني، فعادت تدخلات والدته وشقيقاته في حياتي بقوةٍ ولم أستطع ردعهن بمفردي، بت أخوض كل مواجهة بمفردي، وأصبح دفاعه عني أمرًا مستبعدًا.
وصلنا إلى مفترق الطرق حينما ألزمني بالذهاب مع عائلته إلى ما أسموه بالعطلة الصيفية، لكنها كانت كالأشغال الشاقة بالنسبة لي، فبالإضافة إلى رعاية صغيري كنت مجبرة على خدمة والدته وتلبية رغبات بناتها وأطفالهن، سئمت ذلك الاستعباد منذ أول لحظة ولجت فيها للمصيف واعترضت على تلك المعاملة قائلة بكرامةٍ وعزة نفسٍ عالية:
-أنا مش خدامة هنا، كل واحد مسئول عن نفسه، اللي عاوز حاجة يعملها، محدش يطلب مني حاجة!
اعتبرت والدته جرأتي أنها إهانة شخصية لها، فردت بغيظٍ:
-إنتي ازاي بتتكلمي معايا كده، إنتي قاصدة تعكنني علينا، كل ده علشان طلبت منك تغسلي كام طبق، وتعمليلي شوية شاي!
ثم التفتت ناحية زوجي متابعة بشراسة:
-هي دي اللي اتجوزتها؟ شايف بتعامل أمك ازاي!
لم أكترث بما تلقيه من سموم من جوفها على مسامع المتواجدين، بل دافعت عن كرامتي التي اغتيلت مرارًا بأيدي كل فردٍ منهم:
-ده نظامي من هنا ورايح، أنا مش جاية من الشارع علشان أتعامل بالشكل ده، أنا بنت ناس ومن عيلة محترمة!
هنا تدخلت “س” لتدعم موقف والدتها في الهجوم على شخصي، فهدرت صارخة:
-ده احنا نبقى غلطانين لو سكتنا لواحدة زيك
احتدم الشجار بيننا وهدد بوجود اشتباك بالأيدي، لكن تدخل زوجي لمنعه قائلاً:
-“نهلة”، كفاية بقى من فضلك!
نظرت له بأعينٍ مشتعلة بحمرة مغتاظة، لكني استشطت غضبًا في لحظة حينما أمرني:
-لمي الدور واعتذري لماما، الحكاية ماتستهلش كل ده
انفرجت شفتاي معبرة عن دهشة حانقة من طلبه المستفز للأعصاب المشحونة مسبقًا بكل ما يستلزم الانفجار والتصرف برعونةٍ، أأنا الوحيدة الملامة في كل أزمة تنشُب؟ أأنا الوحيدة المجبرة على الاعتذار والاعتراف بخطأٍ لم أرتكبه؟ صرخت فيه محتجة بشرر ينبعث من مقلتاي المحتدتين:
-مش هايحصل!
نظر لي مدهوشًا، فتابعت بكبرياءٍ وإصرارٍ أشد:
-ولو كان أخر يوم ليا لي معاك، مش هاعتذر لحد أبدًا، مش أنا الغلطانة!
استغلت “س” الموقف لتزيد من اشتعال النيران فقالت بنبرتها الشيطانية مهددة إياي بهدم حياتي:
-يا تعتذري لأمي يا أخويا هايطلقك، إيه رأيك بقى؟
صدمت كلماتها الطاعنة في مقتل الجميع وأجبرتهم على الصمت مترقبين ردة فعلي من تهديدها المهلك، تذكرت وقتها ما اعترفت بفعله مع قريبتها في منزلي وتهديدها بتكرار ذلك معي إن اضطررتها لهذا، لم يعترض أحد على ما قالته، حتى زوجي لم يفق من صدمة خيارها الهادم لأسرته، ركزت أنظاري عليه متوقعة أن يدافع لمرة واحدة عن استقرار عائلته التي أسسها بحبٍ، أن يحمي زوجته وطفليه ممن يهدد بتفكيك شملهم الأسري، لكن خابت توقعاتي فيه وهوت مع خذلانه المُندي للجبين، وبالتالي استغلت “س” الموقف على أكمل وجه لتتابع متحفزة كليًا ضدي ومهينة إياي:
-اللي زي دي ماتتعاشرش، طلقها وإنت الكسبان!
التفت برأسه نحوها صارخًا فيها لأول مرةٍ:
-كفاية، ماتشعلليش الدنيا!
ردت باستنكار ساخط وهي تشير بيدها:
-هاسكت وأحط الجزمة في بؤي إياكش يعجب!
حاول أن يلملم زمام الأمور موجهًا حديثه تلك المرة لي بنبرة هادئة لكنها مُلزمة:
-“نهلة”، اعتذري لماما
رمقته بنظراتٍ احتقارية كارهة له، أتدرون أني في ذلك الموقف تحديدًا ندمت من أعماق قلبي على استمرار زواجي به وتشبثي بتلك العائلة وأنا أعلم جيدًا بُغضهم لي، شعرت بالغضب يجتاحني وأنا أحاول السيطرة على نفسي كي لا أرتكب ما لا يُحمد عقباه في لحظة جموح طائشة، كرر جملته من جديد فلم أتحمل، صرخت معترضة بشراسة وغير عابئة بتبعات ما سيحدث نتيجة رفضي العنيد:
-لأ، سامعني مش هاعتذر لأمك!
ردت والدته متعمدة شحنه ضدي:
-سامع وشايف بتكلم عني إزاي؟
ارتفع حاجباه للأعلى صائحًا بتهديد قوي استشعرته بكل حواسي وكأن طريقة نطقي لكلمة (أمك) قد استفزت رجولته حقًا:
-“نهلة”، اعتذري لأمي ولمي الدور أحسنلك
رددتُ بتحدٍ أقوى وأنا أنظر في عينيه دون أن يرف لي جفنٍ:
-لأ، ولو عاوز تطلقني أعمل كده!
فغر ثغره مدهوشًا من بَوحِي بذلك معلنة تأييدي الصارخ لهدم الأسرة، فلم يعد هناك ما يستوجب البقاء إن ضاع الحب وفقدت الكرامة وتهاوت المشاعر تحت الأقدام، نعم فقد سقطت ورقة التوت أخيرًا، رمقته بنظرة مطولة لكنها جامدة تحمل كل معاني الكره والحقد غير نادمة أبدًا على ما عقدت العزم عليه، فإن كانت النهاية قد اقتربت فلا داعي لأن أدعس ما تبقى من كبريائي النازف لاسترضاء من لن يرتضوا بي مطلقًا حتى لو بذلت روحي فداءً لهم، انتهت العطلة بالنسبة للجميع، وانتهت معها وعود الحب وعهود الزواج الأبدي، عدت تلك المرة إلى منزل والدتي مع طفلين لا أعرف مصير مستقبلهما، لكني اخترت ألا أعيش حياة لا تمنحني إلا الذل والهوان، حياة تميت روحي ببطء شديد وتدفعني إلى حافة الهاوية، فهل أنا بذلك أساءتُ الاختيار؟!
-تمت-