وسقطت ورقة التوت (كاملة)
الفصل الثالث
دومًا أسأل نفسي حينما أختلي بها لماذا أقبل بكل ذلك الذل والهوان مع أمثالهم من أشباه البشر؟ أليس من الأسهل الانفصال والرحيل؟ أليس من الأهون الابتعاد عن ذلك الجحيم؟ ولكن هل يقبل المجتمع بامرأةٍ طُلقت فقط بعد أشهر معدودة من زواجها؟ هل سأسلم من تلك الألسن التي لن تكف عن تقول الأقاويل عني لمجرد إعلان انفصالي هكذا فجأة وبدون أي مقدماتٍ؟ هل سأتحمل نظرات الحزن والحسرة في أعين المحبين لي؟ بالطبع لا، فما أسهل الخوض في الأعراض، وما أسرع انتشار الشائعات في مجتمع يقبل بإذلال المرأة وازدرائها طالما أنها زوجة أحدهم، ولا يقبل بها كمطلقة اضطهدت بشراسة على أيدي حفنة من قساة القلوب.
*****
بعد تلك التجربة المؤلمة، وحينما تماثلت قليلاً للشفاء، وبتُ قادرة على التحرك رفضت العودة إلى منزلي، لم تكن بي الرغبة لرؤية تلك الأوجه التي ساهمت في تدميري بكافة الوسائل، لكني لم أصمد كثيرًا، فإلحاح والدتي المستمر – بالإضافة إلى ما تلقيه على مسامعي يوميًا من كلمات موحية – أشعرني بأن وجودي بمنزل عائلتي غير محبذٍ، وأجبرني بطريقة غير مباشرة على التراجع عما كنت أريد فعله، فعدت إلى هناك شبه محطمة نفسيًا، لن أنكر أن زوجي قدم لي العون لأتجاوز تلك الأزمة، واحتوى ما بي من أوجاع فاستطعت أن أمضي قدمًا، وأنسى ما مررت به، لكن لم يدم الأمر طويلاً، فريثما أصبحت في حالٍ أفضل، عاد كل شيء إلى سابق عهده، نفس التلميحات المهينة والجمل المثيرة للأعصاب، عمدتُ إلى الحفاظ على برودي أمامهن كي أفسد محاولاتهن لتحطيمي.
لم تتمكن ذاكرتي من محو ذلك اللقاء الأسبوعي الذي كان سببًا في زلزلة كياني، فوقتها اجتمع أفراد العائلة على مأدبة واحدة لتناول الطعام كعادتهم ظهيرة كل جمعة، قمت حينها بالإثناء على مجهود والدة زوجي في إعداد المأكولات الشهية، يومها رمقتني “س” بنظرات احتقارية صريحة، ثم صاحت متعمدة إحراجي علنًا:
-ما إنتي بألف وش، بتعرفي تبلفي اللي قدامك كويس علشان تاخديه في صفك
نظرت لها مصدومة، فأنا لم أنطق إلا بالحق تقديرًا لتعبها، هدرت معترضة بشجاعة لا أعرف من أين أتتني وأنا أهب واقفة من على مقعدي:
-ماسمحلكيش!
نظرت لي باستخفاف، واستمرت في تشويه عبارات مدحي لأصبح في نظر المتواجدين كالمنافقين مستغلة مهارتها الفائقة في الرد بقوة مهلكة جعلتني عاجزة عن مجابهتها، لم أستطع التحمل فانسحبت محتجة على أسلوبها الوقح ورفضت تناول الطعام، التفتُ بأعيني المحتقنة غضبًا إلى زوجي متوقعة أنه سيدعمني ككل مرة كما اعتدت منه وسيذهب معي وأنا أقول بثقة:
-احنا شبعنا، يالا بينا!
ولكن كانت المفاجأة الصادمة لي كليًا أنه خذلني حينما رد قائلاً:
-أنا لسه مخلصتش، لو عاوزة تمشي براحتك!
تجاهل تمامًا ما تعرضت له، ولم ينبس بكلمةٍ واحدة حتى ليوبخ بها أخته كنوعٍ من استرضائي، ظل رأسه محنيًا على صحنه يدس الطعام في جوفه وكأن ما مررت به لا يعنيه بتاتًا، فغرت شفتاي مشدوهة من جموده الحرج الذي ذبحني وبشراسة، هل ملَّ حقًا من الدفاع عني؟ اغرورقت حدقتاي سريعًا بالعبرات المريرة، لم أشعر بمثل ذلك الخذلان في حياتي مثلما شعرتُ تلك المرة، فحينما يتخلى عنك السند تدرك أنك بِتُ بالفعل وحيدًا في مهبِ الريح العاصف، لم أنسَ نظراتها الشامتة الموجهة لي وهي ترسم تلك الابتسامة المستفزة على ثغرها، رمقته بنظراتٍ راجية وأنا أتوسله في صمت ألا يمنحها الفرصة لإذلالي هكذا أمام الجميع، واصلت استجديه برجاء مضاعفٍ في نفسي وقلبي ينفطر قهرًا ألا يتركني، تلك المرة فقط قف معي، لكن لا شيء، تعالت ضحكاتها قائلة بتفاخرٍ:
-أخويا عاجبه الأعدة، مانعطلكيش بقى
هززت رأسي عدة مرات مستنكرة جفائه المفاجئ الذي فاق قسوتها معي فزاد من إحساسي بالانكسار وأوجد شرخًا في علاقتي به، انسحبت من المكان واضعة يدي على فمي لأكتم شهقاتي المتحسرة، أتاني صوتها من الخلف يأمرني:
-اقفلي الباب وراكي!
التفتُ لأرمقها بطرف عيني الباكية بنظرة أخيرة ذليلة قبل أن أهرول عائدة إلى منزلي وأنا على شفا خطوة من الانهيار الكلي.
*****
تسلل بيننا إحساسًا غريبًا لم أعهده من قبل بعد مرور أشهر على زواجي به، فلم يعد يتعامل معي بشغفٍ، بل أصبح الجفاء سمة سائدة بيننا بعد تلك الواقعة المخزية، أَرَهَقت مخاصمتي له لعدة أيام روحي المعذبة، طمعتُ أن يشعر نحوي بالذنب، وبتأنيب الضمير، لكن للأسف بدا غير متأثرٍ وواصل التصرف معي ببرود غير مستحب، اضطررت أن أنهي الخصام موهمة نفسي أن الأمر سيمضي كغيره، عدت إلى طبيعتي من جديد بدون أن أعاتبه، وطويت تلك الصفحة المؤسفة من حياتي محاولة إقناع نفسي أن لكل جوادٍ كبوة، وتناسيت عن عمد خذلانه لي.
علمت فيما بعد بأن والدته تعرضت للانزلاق وهي تغتسل بالمرحاض، فأُصيبت بكسر في الساق مما أجبرها على المكوث في الفراش لمدة لا تقل عن شهرٍ، هرعت إليها لأظهر بادرة ود طيبة، لكن كان ردها على زيارتي بعد ذلك الانقطاع:
-جاية تشمني ياختي؟ اطمني هاقوم منها سليمة!
لا أعرف لماذا تمتلأ صدورهن نحوي بكل ذلك الحقد والغل، تساءلت بعد أن فاض بي الكيل من تلك المعاملة القاسية:
-ليه بتعملوا كل ده معايا؟ أنا أذيتكم في حاجة؟
كانت إجابة ابنتها “س” وقتها:
-مش بنقبلك ولا بنطيقك!
بثت مع كلماتها السامة كل ما يمكن أن يقتل مشاعر الصفح بداخلك لمثيلاتها من غلاظ القلوب، صرخت فيها وأنا أدافع عن كرامتي المغتالة على أيدي نساء تلك العائلة:
-طب ليه وافقتوا من الأول على جوازي منه؟!
التوى ثغرها بتأففٍ واضح وهي تُجيبني:
-مرضناش نزعله، وقولنا جوازة والسلام طالما هايفضل قاعد وسطنا
رددت بترفعٍ وببقايا كبريائي الزائف الذي أُهدر مرارًا وتكرارًا في ذلك المنزل الكريه:
-وعلى إيه تجبروا نفسكم عليا؟ نفضنا من الجوازة دي خالص!
لماذا أحمل نفسي ما لا أطيق وأنا أحترق يوميًا بنيران حقدهن المميتة؟ لماذا أنا مضطرة لاجترار ذكريات أليمة مع أناس لا تعرف إلا الجحود والنكران؟ يومها حسمتُ أمري بترك تلك الحياة التعيسة – بكل ما فيها من ذكريات حزن وقهر – وقررت الانفصال عن زوجي، ردت والدته بشراسةٍ مستخدمة يدها في التلويح:
-مستنية إيه؟ الباب يفوت جمل!
رمقتها بنظراتي المشتعلة حنقًا منها قبل أن أنصرف وأعود إلى منزلي لأجمع ما تطاله يدي من متعلقاتي الخاصة في حقيبة سفرٍ صغيرة وأنا كلي إصرار على الطلاق حتى لو كلفني ذلك خسارة من أحب.
*****
يُقال مجازًا أن بوصلة الحب ترشد العاشقين إلى أوطانهن، توقعت أن يهرع زوجي إليّ محاولاً ترميم الشروخ التي تصدعت في جدار حياتنا مستميلاً قلبي وعقلي لأعود معه من أجل إنقاذ زيجتنا المهددة بالانهيار، لكنه لم يأتِ وأصبح عشقنا وهمًا، بقيتُ وحيدة في منزل والدتي لأسابيعٍ أصغي بقلب موجوع إلى عباراتها المتحسرة على حالي البائس محملة إياي الذنب، نعم هذا ما جنته يدي بقراري الأهوج، فكأي أم تحب فلذات أكبادها لا تتمنى أن تعايش إحداهن ما مرت هي به من تبعات الانفصال، لكن ليس لمشاعري المهانة أي اعتبار، عنفتني لأني لم أصبر واحتسب كأي زوجة تقع في مشكلات مع عائلة زوجها لأرجع إليها هكذا بخيبتي، اكتشفت وقتها أن رحمي احتوى على جنينٍ منه، ورغم تلهفي شوقًا لإنجاب طفلٍ إلا أن رغبتي تلك المرة كانت فاترة، آنذاك حمدت والدتي الله لأنه منحني أحد نعمه لتكون سببًا قويًا من أجل عودتي وإنهاء كل الخلافات السابقة، هللت بسعادة وأنا أجزم أن قلبها يكاد يرقص طربًا:
-شوفتي رحمة ربنا، احنا نلم الليلة يا “نهلة” وترجعوا لبعض، حرام ابنكم ولا بنتكم يجي الدنيا يلاقي كل واحد فيكم في حتة، خلاص اتفقنا؟
ربما كانت محقة في وجهة نظرها، فما ذنب صغير يأتي إلى الدنيا ليعاني فراق أبويه، ومع ذلك أصبت بالاكتئاب بمجرد أن خطت بقدمي عتبة ذلك المنزل، فالأمور لم تعد كما كانت في سابق عهدها، باتت الجدران باردة جافة تبعث على الضيق والانقباض، وأنا لم أعد تلك الشابة البشوش المشرقة التي تملأ الدنيا مرحًا بضحكاتها، حاول زوجي تعويضي لكن تلك المشاعر التي كانت تخدر أوجاعي فيما مضى لم تعد تجدي نفعًا معي، انزويت على نفسي معتزلة الجميع خلال أشهر حملي، وتجنبت اللقاء معهم قدر المستطاع حتى أنجبت صغيري الأول والتهيت مع متطلباته كرضيع، لكن لم يعفني ذلك مما ظنوا أنه حقهم المكتسب نظير عودتي إلى زوجي.
*****
دومًا أسأل نفسي حينما أختلي بها لماذا أقبل بكل ذلك الذل والهوان مع أمثالهم من أشباه البشر؟ أليس من الأسهل الانفصال والرحيل؟ أليس من الأهون الابتعاد عن ذلك الجحيم؟ ولكن هل يقبل المجتمع بامرأةٍ طُلقت فقط بعد أشهر معدودة من زواجها؟ هل سأسلم من تلك الألسن التي لن تكف عن تقول الأقاويل عني لمجرد إعلان انفصالي هكذا فجأة وبدون أي مقدماتٍ؟ هل سأتحمل نظرات الحزن والحسرة في أعين المحبين لي؟ بالطبع لا، فما أسهل الخوض في الأعراض، وما أسرع انتشار الشائعات في مجتمع يقبل بإذلال المرأة وازدرائها طالما أنها زوجة أحدهم، ولا يقبل بها كمطلقة اضطهدت بشراسة على أيدي حفنة من قساة القلوب.
*****
بعد تلك التجربة المؤلمة، وحينما تماثلت قليلاً للشفاء، وبتُ قادرة على التحرك رفضت العودة إلى منزلي، لم تكن بي الرغبة لرؤية تلك الأوجه التي ساهمت في تدميري بكافة الوسائل، لكني لم أصمد كثيرًا، فإلحاح والدتي المستمر – بالإضافة إلى ما تلقيه على مسامعي يوميًا من كلمات موحية – أشعرني بأن وجودي بمنزل عائلتي غير محبذٍ، وأجبرني بطريقة غير مباشرة على التراجع عما كنت أريد فعله، فعدت إلى هناك شبه محطمة نفسيًا، لن أنكر أن زوجي قدم لي العون لأتجاوز تلك الأزمة، واحتوى ما بي من أوجاع فاستطعت أن أمضي قدمًا، وأنسى ما مررت به، لكن لم يدم الأمر طويلاً، فريثما أصبحت في حالٍ أفضل، عاد كل شيء إلى سابق عهده، نفس التلميحات المهينة والجمل المثيرة للأعصاب، عمدتُ إلى الحفاظ على برودي أمامهن كي أفسد محاولاتهن لتحطيمي.
لم تتمكن ذاكرتي من محو ذلك اللقاء الأسبوعي الذي كان سببًا في زلزلة كياني، فوقتها اجتمع أفراد العائلة على مأدبة واحدة لتناول الطعام كعادتهم ظهيرة كل جمعة، قمت حينها بالإثناء على مجهود والدة زوجي في إعداد المأكولات الشهية، يومها رمقتني “س” بنظرات احتقارية صريحة، ثم صاحت متعمدة إحراجي علنًا:
-ما إنتي بألف وش، بتعرفي تبلفي اللي قدامك كويس علشان تاخديه في صفك
نظرت لها مصدومة، فأنا لم أنطق إلا بالحق تقديرًا لتعبها، هدرت معترضة بشجاعة لا أعرف من أين أتتني وأنا أهب واقفة من على مقعدي:
-ماسمحلكيش!
نظرت لي باستخفاف، واستمرت في تشويه عبارات مدحي لأصبح في نظر المتواجدين كالمنافقين مستغلة مهارتها الفائقة في الرد بقوة مهلكة جعلتني عاجزة عن مجابهتها، لم أستطع التحمل فانسحبت محتجة على أسلوبها الوقح ورفضت تناول الطعام، التفتُ بأعيني المحتقنة غضبًا إلى زوجي متوقعة أنه سيدعمني ككل مرة كما اعتدت منه وسيذهب معي وأنا أقول بثقة:
-احنا شبعنا، يالا بينا!
ولكن كانت المفاجأة الصادمة لي كليًا أنه خذلني حينما رد قائلاً:
-أنا لسه مخلصتش، لو عاوزة تمشي براحتك!
تجاهل تمامًا ما تعرضت له، ولم ينبس بكلمةٍ واحدة حتى ليوبخ بها أخته كنوعٍ من استرضائي، ظل رأسه محنيًا على صحنه يدس الطعام في جوفه وكأن ما مررت به لا يعنيه بتاتًا، فغرت شفتاي مشدوهة من جموده الحرج الذي ذبحني وبشراسة، هل ملَّ حقًا من الدفاع عني؟ اغرورقت حدقتاي سريعًا بالعبرات المريرة، لم أشعر بمثل ذلك الخذلان في حياتي مثلما شعرتُ تلك المرة، فحينما يتخلى عنك السند تدرك أنك بِتُ بالفعل وحيدًا في مهبِ الريح العاصف، لم أنسَ نظراتها الشامتة الموجهة لي وهي ترسم تلك الابتسامة المستفزة على ثغرها، رمقته بنظراتٍ راجية وأنا أتوسله في صمت ألا يمنحها الفرصة لإذلالي هكذا أمام الجميع، واصلت استجديه برجاء مضاعفٍ في نفسي وقلبي ينفطر قهرًا ألا يتركني، تلك المرة فقط قف معي، لكن لا شيء، تعالت ضحكاتها قائلة بتفاخرٍ:
-أخويا عاجبه الأعدة، مانعطلكيش بقى
هززت رأسي عدة مرات مستنكرة جفائه المفاجئ الذي فاق قسوتها معي فزاد من إحساسي بالانكسار وأوجد شرخًا في علاقتي به، انسحبت من المكان واضعة يدي على فمي لأكتم شهقاتي المتحسرة، أتاني صوتها من الخلف يأمرني:
-اقفلي الباب وراكي!
التفتُ لأرمقها بطرف عيني الباكية بنظرة أخيرة ذليلة قبل أن أهرول عائدة إلى منزلي وأنا على شفا خطوة من الانهيار الكلي.
*****
تسلل بيننا إحساسًا غريبًا لم أعهده من قبل بعد مرور أشهر على زواجي به، فلم يعد يتعامل معي بشغفٍ، بل أصبح الجفاء سمة سائدة بيننا بعد تلك الواقعة المخزية، أَرَهَقت مخاصمتي له لعدة أيام روحي المعذبة، طمعتُ أن يشعر نحوي بالذنب، وبتأنيب الضمير، لكن للأسف بدا غير متأثرٍ وواصل التصرف معي ببرود غير مستحب، اضطررت أن أنهي الخصام موهمة نفسي أن الأمر سيمضي كغيره، عدت إلى طبيعتي من جديد بدون أن أعاتبه، وطويت تلك الصفحة المؤسفة من حياتي محاولة إقناع نفسي أن لكل جوادٍ كبوة، وتناسيت عن عمد خذلانه لي.
علمت فيما بعد بأن والدته تعرضت للانزلاق وهي تغتسل بالمرحاض، فأُصيبت بكسر في الساق مما أجبرها على المكوث في الفراش لمدة لا تقل عن شهرٍ، هرعت إليها لأظهر بادرة ود طيبة، لكن كان ردها على زيارتي بعد ذلك الانقطاع:
-جاية تشمني ياختي؟ اطمني هاقوم منها سليمة!
لا أعرف لماذا تمتلأ صدورهن نحوي بكل ذلك الحقد والغل، تساءلت بعد أن فاض بي الكيل من تلك المعاملة القاسية:
-ليه بتعملوا كل ده معايا؟ أنا أذيتكم في حاجة؟
كانت إجابة ابنتها “س” وقتها:
-مش بنقبلك ولا بنطيقك!
بثت مع كلماتها السامة كل ما يمكن أن يقتل مشاعر الصفح بداخلك لمثيلاتها من غلاظ القلوب، صرخت فيها وأنا أدافع عن كرامتي المغتالة على أيدي نساء تلك العائلة:
-طب ليه وافقتوا من الأول على جوازي منه؟!
التوى ثغرها بتأففٍ واضح وهي تُجيبني:
-مرضناش نزعله، وقولنا جوازة والسلام طالما هايفضل قاعد وسطنا
رددت بترفعٍ وببقايا كبريائي الزائف الذي أُهدر مرارًا وتكرارًا في ذلك المنزل الكريه:
-وعلى إيه تجبروا نفسكم عليا؟ نفضنا من الجوازة دي خالص!
لماذا أحمل نفسي ما لا أطيق وأنا أحترق يوميًا بنيران حقدهن المميتة؟ لماذا أنا مضطرة لاجترار ذكريات أليمة مع أناس لا تعرف إلا الجحود والنكران؟ يومها حسمتُ أمري بترك تلك الحياة التعيسة – بكل ما فيها من ذكريات حزن وقهر – وقررت الانفصال عن زوجي، ردت والدته بشراسةٍ مستخدمة يدها في التلويح:
-مستنية إيه؟ الباب يفوت جمل!
رمقتها بنظراتي المشتعلة حنقًا منها قبل أن أنصرف وأعود إلى منزلي لأجمع ما تطاله يدي من متعلقاتي الخاصة في حقيبة سفرٍ صغيرة وأنا كلي إصرار على الطلاق حتى لو كلفني ذلك خسارة من أحب.
*****
يُقال مجازًا أن بوصلة الحب ترشد العاشقين إلى أوطانهن، توقعت أن يهرع زوجي إليّ محاولاً ترميم الشروخ التي تصدعت في جدار حياتنا مستميلاً قلبي وعقلي لأعود معه من أجل إنقاذ زيجتنا المهددة بالانهيار، لكنه لم يأتِ وأصبح عشقنا وهمًا، بقيتُ وحيدة في منزل والدتي لأسابيعٍ أصغي بقلب موجوع إلى عباراتها المتحسرة على حالي البائس محملة إياي الذنب، نعم هذا ما جنته يدي بقراري الأهوج، فكأي أم تحب فلذات أكبادها لا تتمنى أن تعايش إحداهن ما مرت هي به من تبعات الانفصال، لكن ليس لمشاعري المهانة أي اعتبار، عنفتني لأني لم أصبر واحتسب كأي زوجة تقع في مشكلات مع عائلة زوجها لأرجع إليها هكذا بخيبتي، اكتشفت وقتها أن رحمي احتوى على جنينٍ منه، ورغم تلهفي شوقًا لإنجاب طفلٍ إلا أن رغبتي تلك المرة كانت فاترة، آنذاك حمدت والدتي الله لأنه منحني أحد نعمه لتكون سببًا قويًا من أجل عودتي وإنهاء كل الخلافات السابقة، هللت بسعادة وأنا أجزم أن قلبها يكاد يرقص طربًا:
-شوفتي رحمة ربنا، احنا نلم الليلة يا “نهلة” وترجعوا لبعض، حرام ابنكم ولا بنتكم يجي الدنيا يلاقي كل واحد فيكم في حتة، خلاص اتفقنا؟
ربما كانت محقة في وجهة نظرها، فما ذنب صغير يأتي إلى الدنيا ليعاني فراق أبويه، ومع ذلك أصبت بالاكتئاب بمجرد أن خطت بقدمي عتبة ذلك المنزل، فالأمور لم تعد كما كانت في سابق عهدها، باتت الجدران باردة جافة تبعث على الضيق والانقباض، وأنا لم أعد تلك الشابة البشوش المشرقة التي تملأ الدنيا مرحًا بضحكاتها، حاول زوجي تعويضي لكن تلك المشاعر التي كانت تخدر أوجاعي فيما مضى لم تعد تجدي نفعًا معي، انزويت على نفسي معتزلة الجميع خلال أشهر حملي، وتجنبت اللقاء معهم قدر المستطاع حتى أنجبت صغيري الأول والتهيت مع متطلباته كرضيع، لكن لم يعفني ذلك مما ظنوا أنه حقهم المكتسب نظير عودتي إلى زوجي.
*****
يتبع >>>>>