رواية كعبة الكافر
الـفصل الـأول
أشرقت شمس يوم جديد علي بيت صغير بأحد الاحياء العريقة بمدينة الاسكندرية .. حيث رطوبة الجو تركت اثراً علي المباني و خاصة القديمة منها .. فراحت تتقارب و كأنها تشد من أزر بعضها البعض .. و كذلك الاشخاص يتقاربون هُنا بسرعة البرق .. و لكن لحسن الحظ أن للمباني قلوباً أوفي من بعض البشر و إلا لشهدناها تنهار ، كما تنهار الكثير من قصص الحب في تلك البلاد .. فمصر مناخ لا يحتمل الحُب .. !
، و كأن نور الشمس الذي أبدل نظام الكون ليحل صباح محل مسـاء ، أبدل حال تلك العائلة ..
ففي مطار برج العرب بالإسكندرية ..
وصلت طائرة لندن لتعلن عن عودة – شاب أسمر متوسط الطول .. نحيف المظهر ،يرتدي نظارة طبية … كان في بعثة علمية في لندن … لـإستكمال دراسته العليا في الطب – و هو أحد أبناء ذلك المنزل و يُدعي أحمد ، ليجد خطيبته وهي فتاة متوسطة الطول ، معتدلة القوام .. تُداعب وجنتيها البيضاء حُمرة الخجل .. و يغطي شعرها الجميل حجاب وردي يتناسب مع لون وجنتيها .. بعيون عسلية جميلة..و تُدعي ” نادين ” تنتظره لتبارك وصوله بالسلامه ..
فقالت له ” نادين ” .. حمداً لله علي وصولك بالسلامة يا ” أحمد” .. لقد أوحشني غيابك .. و أجمل شيء انك لم تخبر أحداً بميعاد وصولك حتي تكون مفاجأة لهم ..
فرد عليها ” أحمد ” قائلاً .. رغم أني حصلت علي أعلي الدرجات كطبيب و لكني حتي الاّن لا استطيع أن أصف لكي شعوري نحوك .. فأنا أمامك سائق التاكسي مُتحدثاً لبقاً عني .. ثم سرعان ما تبدلت تلك الفرحة و حل مكانها شيئاُ من الحزن و الاّلم .. فقطع أحمد حاجز الصمت قائلاً .. لا اّدري حقاُ هل لم أخبر أحداً بميعاد وصولي حتي تكون تلك مفاجأة أم حتي لا يكون ” ياسر” أول من اّراه فور وصولي لمصر .. ؟!
قالت ” نادين ” بشيء من الدلال محاولة استعطاف ” أحمد ” .. أيعقل يا أحمد ألا تكون كُل تلك السنوات التي مرت .. بالإضافة لكل ما تملكه من طيبة قلب لم يجعلاك تصفو و تغفر لأخاك الوحيد ..!
رد ” أحمد ” بحدة و بنبرة صوت غيرها الغضب .. ماذا أغفر له يا نادين ؟! .. أأغفر له تعاطيه المخدرات ؟! .. أم معاملته الوحشية لأمي الست الرحيمة الطيبة .. فانت ِ يا نادين ترين تصرفاته بنفسك فهو معك ِ بكلية العلوم .. أأنسي أيضاُ انك في السنة الرابعة و هو مازال بالسنة الثانية رغم انه يكبرك بعامين .. ؟! و مبرره الوحيد دائماُ أن أبانا توفي و تركه في سن صغير .. و لكن الكثير حولنا تربي بدون أب و أم حتي و لايستطيعون فعل ربع ما يفعله ياسر.. …
و في الطريق حاولت نادين أن تغير مجري الحديث حتي يهدأ أحمد قليلاُ حتي وصلا إلي بيت نادين فدلفا سوياً إلي عمارة في أحد أرقي الأحياء بالأسكندرية و بعد جلوسه قليلاً مع أهل نادين .. أكمل مسيرته حتي توقف أمام المسجد الصغير بالمنطقة التي يسكن بها .. فدلف إليه لتأدية صلاة العصر قبل الذهاب لمنزله ليري أهله ..
وحين دخل أحمد المسجد و رفع عينه إلي إمام المسجد حين قال ..
“استقيموا يرحمكمـ الله ”
تفاجيء أحمد بشاب طويل القامة، عريض المنكبين .. تزيده عضلاته قوة و كبرياء ..ذو بشرة سمراء … و عيون بنية وسيعة .. و شارب ولحية خفيفة.. يمتاز بجمال الصوت .. و ما كان ذلك الشاب سوي ” ياسر ” أخيه .. الذي عُرف عنه أنه قاسي القلب به كل أمراض العصر من حب الذات و الأنانية و الغرور ..
و ما أن انتهت الصلاة حتي خيم الوجوم علي وجه أحمد .. فنظر لياسر بحاجبين معقودين و أعين تُمعن النظر فيه .. كأنه لا يصدق ما يراه .. فكأنه أمام شخص لـا يعرفه .. شخص اّخر غير الذي تربي معه .. !
أرتمي ياسر في احضان احمد و عانقه ..و قال له.. حمداُ لله علي سلامتك يا أحمد ..
أحمد: ومازالت حيرته سيدة الموقف .. سلمك الله يا ياسر .. أنا سعيد جدا لأن اّراك بتلك الحالة .. و لكن ماذا حدث أبدل حالك بهذا الشكل ؟!
بدا علي ياسر أنه يسترجع شيئاً ما في عقله و فجأة توهج أنفه بلون الدماء و عيون غزا الدمع ارجائها … و قال ” الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله ” … الهداية من عند الله .. و لكن صدقني أبواب التوبة فُتحت لي بعد شقاء سيرافقني طيلة عمري ..و ذنب سيرافقني حتي الموت .. فقد اقتص الله مني ما فعلته بكم !
ظلت الحيرة تسيطر علي أحمد و لكنه اّثر الصمت علي التعليق عليه ..!
و بعد مرور يومين علي وصول أحمد ، مروا بين زيارات عائلية و لقاء بالاهل و الاصدقاء ..لاحظ احمد التغيير الكلي لياسر كأن الله ابدله بشخص اخر
و بدأ احمد يتسائل ما الذي ابدل ذلك الشيطان بذلك الملاك الإمام الذي يقيم بالناس الصلاة ،و لما سكنت نظرة الانكسار في تلك العيون التي لم تعتد علي الانكسار يوماً ؟!
.. و لكن ياسر لـم يكن يجيب سوي بكلمة واحدة مُبهمة و هي ” كعبة الكافر” .. !
،و بعد انتهاء اليوم جلس أحمد في الشرفة ليهاتف نادين ليطمئن عليها بعيداً عن صخب اليوم .. و ليحاول معرفة ماذا حل بياسر فهي زميلته بنفس الجامعة ..
أحمد: نادين انتِ مع ياسر في الجامعة طيلة الوقت و من المؤكد تعرفين ماذا حدث معه ؟! أنا حقاً سعيد بأن مَنّ الله عليه بهداه .. و لكني قلق عليه و أريد أن اعرف ما قصة ” كعبة الكافر ” .. ؟!
ارتبك صوتها فجأة و قالت .. كعـ … كعبة الكافر!
احمد: ماذا بكِ ارتبك صوتك فجأة ؟ اخبريني ماذا حدث و أنا غير موجود !
و بينما يضغط احمد علي نادين لتتحدث سمع صوت مُدوي هز بعنف ارجاء المكان … فذهب احمد مسرعـاً ليتفقد ما حدث ، فوجد في الارض ما اصاب ذعره و جعله يصرخ خوفاُ حيث وجد .. أخيه ياسر مُلقي علي الارض فاقد الوعي… فلبث أحمد في مكانه للحظة كأنه لـا يصدق ما يحدث ..
، حيث كان وجه ياسر مغطي بالدموع ،ويمسك في يده ورقة منقوش في كل جزء فيها كلمة “كعبة الكافر” و رسم صغير في المنتصف لشكل غريب مثل المعبد ..
ولكن العناية الاّلهية تدخلت لتنقذ ياسر اّنذاك حيث أن أحمد طبيب فتدارك الوضع فوجد أن كل ما يعاني منه ياسر هو ارتفاع ضغط الدم و السبب نفسي بالأساس ..
و في اليومـ التالي ..
بعد أن اطمئن أحمد علي ياسر تركه في رعاية والدته التي حدث تغيير جذري في معاملة ياسر لها.
و انصرف لمقابلة نادين ليحاول أن يجد عندها مبرر لما حدث لياسر في غيابه….
وفي احدي المحال التجارية الهادئة القريبة من البحر ..
اّثر احمد و نادين الجلوس علي طاولة تطل علي البحر و كان أحمد مازال متوتراً لما حدث أمام عينيه أمس ، فحاولت نادين أن تهدئه و تفهم ماذا حل به .. فقص احمد عليها ما حدث مع ياسر ..
وبنبرة صوت طغي عليها الشجن و كأنه في محاولة توسل .. قال أحمد : قصي لي يا نادين ماذا حدث .. و لما ارتبكتي عندما سألت عن كعبة الكافر .. ؟!
أتدركين ما معني أن يبكي ياسر الذي يعتريه الغرور من خُصل شعره لأصابع قدميه ؟!
برقت عينييّ نادين بشيء من الحنان و المواساة و قالت .. ” قد أكون أعرف ما حدث مع ياسر العام الماضي ..و لكني بعد ذلك انشغلت بمشروع تخرجي .. وصدقني أنا حقاً لا أعرف ماذا تكون ” كعبة الكافر ” … فكـُل ما أعرفه عن ياسر هو شيء واحد فقط .. قصته مع “ندي” ..
فسأل أحمد متعجباً .. من هي ندي ؟!
فقالت نادين سأقص لك كل ما أعرفه عن تلك القصة ..
أطالت نادين النظر للبحر ثم قالت في بداية العام الماضي كنت في بداية عامي الرابع بالجامعة أما اخاك فقد كان بالكاد تخطي عامه الأول بعدما رسب أكثر من مرة
وفي ذلك العام قد تعرفت علي فتاة سبحان من زين وجهها بالجمال و البراءة .. تلك الفتاة لم تكن سوي ” ندي ” .. فلون عينيها لا يختلف كثيرا عن مياه تلك البحر .. كان حجابها يخفي عنا شعرها و يبرز لون عيناها و جمالها .. لكنها كانت مختلفة عن كل الفتيات التي أعرفهن .. فلم ترث من البحر جمال و بريق المياه فيه فقط .. بل ورثت منه أيضاُ خيره و عطاءه و ثورته و هدوئه و غضبه ..
، و كانت بنفس الدفعة مع ياسر .. فقد كانت في بداية العام الثاني بالجامعة ..و لكنها لم تحظي بسلسلة الرسوب المتكرر كأخوك ..!
مَر شهر و توطدت علـاقتي أكثر بندي ، كأنها رفيقة عُمر .. كنا لا ننفصل عن بعض في أوقات الراحة بالجامعة .. و كانت تكره شلة الفساد المُحيطة بياسر كثيراً .. لطالما حدثتني أن ” يوسف و خالد ” أصدقاء ياسر .. لا يزيدهم إلتفاف الفتيات حولهم غير الغرور .. أما الفتيات فيطفي عليهن ذلك الجمع إيحاء بالرخص ..!
، ثم قالت دعك ِ منهم .. فليهديهم الله ليس لنا نحن شأن بهم فقال تعالي “يا ايها الذين امنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ” ..
، حتي هُنا كانت الأمور اعتيادية .. حتي وصل ياسر و اجتمع بيوسف و خالد و بدأت الفتيات بالإلتفاف حوله و هو يغني و يردد كلمات أغنية أجنبية ..
لمحت بنظرات ” ندي ” شيء أكبر من الزمالة .. فأحمرار وجنتيها و ثورتها شعرت بين طياتهم بالغيرة ..
، حتي ذلك اليوم الذي طلبت مني أن أحمل عنها أغراضها حتي تذهب لتشتري بعض الأطعمة من الكافتيريا .. فبدون قصد وقعت عيني علي جملة مكتوبة بداخل – الإسكتش – الخاص بها .. فكان مكتوب ..
” مالي ابحث عنك كأن روحي و روحك منصهران معاً في بوتقة واحدة و أينما أنشطرت عني تحاول روحي أن تتحد مع روحك في الافق من جديد ” (ياسر)
أصبح الاّن الأمر برمته واضحاً فلم يعد هُنالك مجال للشك ، و لكن ” ندي ” عادت و لاحظت أني انظر علي الكلام بداخل – الاسكتش –
، حاولت الإعتذار منها و اني لم أكن احاول التطفل علي حياتها الشخصية .. و لكني أخشي عليها من ” ياسر ” و حاولت أن أخبرها أن ياسر ليس زميلاً عادياً لي ، بل هو شقيق خطيبي أيضاُ .. و خطيبي دائم الشكوي منه و من أخلاقه السيئة ..
، قاطعتني ” ندي ” و الخجل يزين وجنتيها بحمرة تزيدهما جمالاً و قالت لي عن ياسر .. “لطالما كان حربي الداخلية مع نفسي ، و أحد هزائمي التي لا أستطيع تقبلها .. و تزعزع عقيدتي به و ضعف إيماني فيه .. لطالما سبب ندبة واضحة بروحي .. تظهر بوضوح كُلما نظر أحدهم إليّ .. ”
و حاولت أن اشرح لها مراراً و تكراراُ أن ياسر ليس كمان تظن و أنه سيء حتي مع أهله و ذويه .. لكنها قالت لي ..
لم يعرف أحد ياسر كما أعرفه أنا من الداخل ، فهو يداري بسوئاته تلك انكساراُ لا يريد أحداُ أن يراه .. و ضعف ووحدة لا يشعر بهما شخص سواه ..!
قلت لها مازحة .. ” كُل البنات إللي حوالين ياسر دول و حاسس بالوحدة .. ده قرب يعمل ياسر لوفرز زي تامر حسني لوفرز” .. لكنها كانت متيقنة بأن كُل هؤلاء يحيطون بياسر لإعجابهم بقشرة خارجية منه و هي مظهره الوسيم و صوته و شخصيته .. أما هي فكانت تحُب ياسر السيء العنيد بكل عيوبه و مساوئه ..
قاطعها أحمد قائلاُ .. حتي أنا لم أفكر يوماُ أن أنظر إلي ياسر هكذا .. فلم أكن أري به سوي الجانب السيء ..أما ما يحتاجه فعلاُ فلم أكن انظر له ..و اعترف أني كنت مقصراً حقاُ في حق ياسر.. واتمني أن الوقت لم يكن تأخر علي اصلاح ما افسدته ..
و في المساء عاد أحمد للمنزل ..
و أثناء مروره بباب غرفة ” ياسر ” المُوصد ..سمعه يتحدث مع شخص كأنه يتكلم عبر الهاتف ..
و كان يبكي بحرقة و يتحدث بكلامـ مضطرب ،و يقول ..
أنا مش قادر اعيش كده .. بحبك اكتر من نفسي .. ردي عليا انا تعبان .. اتكلمي قولي اني هقدر اشوفك تاني .. شايفة الموضوع مستاهل الغياب ده كله .. انا اتغيرت بقيت كويس .. المرادي بجد و الله .. انا لسة مصلي و دعتلك كتير اكيد وصلك .. اتكلمي بقي هموت مش قادر .. انا مش مصدق انك زعلانة مني اوي كده..
يعني خلاص مش هلاقي حد يقولي مالك تاني و لا يتكلم معايا و لا يحن عليا .. انتي عارفة ان اهلي مش سائلين فيا … بتعذبيني ليه ؟! … يارب اموت لو مردتيش عليا…
ترقرق الدمع في عين احمد و هو يسمع توسلات اخيه ، و ادرك كم كان مقصر في حقه
ثم فتح ياسر باب الغرفه و توجه خارج المنزل و قرر احمد أن يتبعه
ليفهم ماذا يحدث .. و يفهم ماذا تعني كعبة الكافر ..
و تتبعه احمد حتي دخل ياسر احد الشوارع المظلمة و في الظلام حدث ما لم يتوقعه احمد .. يــُتبع