طه حسين – حياة طه حسين – وفاة طه حسين

طه حسين – حياة طه حسين – وفاة طه حسين

اسمه : طه حسين بن علي بن سلامة

مولده: 
ولد عام 1307 الموافق 14 نوفمبر 1889 م ، في قرية ( الكيلو ) بمغاغة من محافظة المينا ( بالصعيد المصري ) ، وهو سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه وخامس عشر من أشقاءه وأصيب بالجدري في الثالثة ( وقيل في السادسة ) من عمره فكف بصره .

تعليمه : 
بدأ حياته في الأزهر ( 1902-1908) ثم بالجامعة المصرية القديمة . وهو أول من نال شهادة ( الدكتوراة ) منها (1914) بكتاب ( ذكرى أبي العلاء ) . وسافر في بعثة إلى باريس ، فتخرج بالسوربون (1918 ) ، وعاد إلى مصر فاتصل بالصحافة وعين محاضراً في كلية الآداب بجامعة القاهرة ، ثم كان عميداً لتلك الكلية فوزيراً للمعارف . وفي تلك البرهة تمكن من جعل التعليم الثانوي والفني مجاناً . وكان من أعضاء المجمع العلمي العربي المراسلين بدمشق ثم رئيساً لمجمع اللغة بمصر ، وعينته جامعة الدول العربية رئيساً للجنتها الثقافية فأدارها مدة . حاول البدء في عمل ( دائرة معارف ) عربية ولم ينجح .

  • كانت أمنية الشيخ حسن ، وهو الموظف في شركة السكر أن يرى ابنه ( طه ) قاضياً ، وأن يراه من علماء الأزهر قد جلس إلى أحد أعمدته تتحلق من حوله ندوة واسعة المدى .

يقول (أنور الجندي ) : عرف الدكتور طه طلائع المستشرقين في الجامعة المصرية القديمة ، أخذ من ( نلينو ) مصادر التاريخ الأدبي ومن ( برجستراسر ) : التطور النحوي ، ومن ( جويدي ) : علم اللغة الجنوبية القديم ، ومن ( ليتمان ) فقه اللغة . أما في فرنسا فإنه تابع ( دور كايم ) ورأيه في ابن خلدون استهانة وانتقاصاً ، وتابع ( كازنوفا ) عن مفهومه في القرآن وتفسيره له حيث يقول : ” كنت شديد الإعجاب بطائفة من المستشرقين ولكني لم أكن أقدر أن هؤلاء المستشرقين يستطيعون أن يعرضوا في إصابة وتوفيق لألفاظ القرآن ومعانيه ، والكشف عن أسراره وأعراضه ، فلم أكد أجلس إلى كازانوفا ، حتى تغير رأيي ، أو قل ذهب رأيي كله وما هي إلا دروس سمعتها منه حتى استيقنت أن الرجل كان أقدر على فهم القرآن وأمهر في تفسيره من هؤلاء اللذين يحتكرون علم القرآن ويرون أنهم خزنته وسدنته وأصحاب الحق في تأويله ، فتنت بهذا الرجل.

ما قاله النقاد عنه :
الدكتور طه حسين أديب مصري قد اكتسب شهرة واسعة وأنتج إنتاجاً غزيراً وكان له نشاط واسع في مجال الجامعة ووزارة المعارف بالإضافة إلى مجاله في الصحافة والتأليف .
فيعلق ( عبدالرشيد محمودي) قائلاً :
في 5 مايو سنة 1914 منح طه حسين درجة الدكتوراة عن الرسالة التي أعدها عن أبي العلاء المعري . وهذا العمل الذي نشر بعد ذلك بعام تحت عنوان (ذكرى أبي العلاء )جدير بأن يعد أولاً بمعان متعددة ، فقد كان أول رسالة دكتوارة تقدم إلى الجامعة الناشئة وتجيزها ، وكان أيضاً أول عمل يعترف طه بجدارته للنشر على شكل كتاب ، فهو يؤكد أنه أذن بنشر الكتاب لشدة أثرته وحبه أن يكون واضحاً لمعاصريه ولمن يجيئون على أثره في جميع ما اختلف على نفسه من الأطوار ،ة وذلك أن الكتاب يمثل حياته العقلية في الخامسة والعشرين .
ثم يخبرنا المؤلف – من منظور أوسع نطاقاً ولكن بنغمة الزهو ذاتها – أن كتابة يؤرخ الحركة الأدبية في مصر ، لأنه أول عمل في الآداب العربية يوضع وفقاً للمنهج التاريخي الحديث ، وهو يقول إنه تشدد في إتباع الخطة التي رسمها للكتاب حتى كاد يكون الكتاب نوعاً من المنطق ، أو هو بالفعل منطق تاريخي أدبي .
وقد نضيف إلى كل ذلك أن نشر ذكرى أبي العلاء كان بداية لاشتهار طه حسين على الصعيد الدولي .

ويقول ( العقاد )
طه حسين هو على الترتيب : كاتب قصة ، ومؤرخ للعصور الأدبية ، وناقد للآداب والفنون فهو أسلوبه المطبوع الذي يلائم الإفضاء بأفكاره وأحاسيسه لأنه أسلوب الإملاء الموقع الذي يجعل السكوت والابتداء فواصل ونغمات ..
لم تخل حياته من الترتيل فهو يفكر ليملي ، ويملي ليزاوج بين الفواصل كما يزاوج بين الفترات الموسيقية .
وليست هذه هي ( النقيصة ) الوحيدة ، فهناك النقيصة الظاهرة في الحزم والتشكيك ، ونقيصة ثالثة حين يكتب المقالات ، أنه يقتصد في العنوان حتى لا يجاوز كلمة واحدة ، وأن يسهب في المقال حتى يفيض بالأنهار ، ونقيصة غير هذه وتلك أن تقترن الروح الجدلية في عباراته بالروح العلمية .
ويأتي طه حسين الناقد بعد طه المؤرخ وطه صاحب القصة لأن المدار في النقد كله على مقاييس الشعر والبلاغة الشعرية وليس نصيب الدكتور طه في هذه المقاييس بأوفى نصيب .

كمايضيف ( أنور الجندي ) قائلاً:
لمع نجم طه حسين لمعانً خاطفاً في الثلاثينات عندما أصدر كتابه ( في الشعر الجاهلي ) الذي حمل معه مجموعة من الآراء الخطيرة التي تعارضت مع أصول الإسلام ومفاهيمه فأحدثت ضجة ضخمة واسعة المدى في الجامعة والأزهر والصحافة . . جرى في أبحاثه المختلفة مجرى كُتاب الغرب وأعتمد أساليبهم ومناهجهم في دراسة أدب العرب وتاريخ الإسلام .
وأقسى ما كتب طه حسين : تكذيب القرآن وإنكار نبوة إبراهيم وإسماعيل .
لم تكد تمر شهور حتى كان حديثه عن تأثير الوثنية واليهودية والنصرانية في الشعر العربي ، وبعدها كتب مقالة عن العلم والدين قال : ظهر تناقض كبير بين نصوص الكتب الدينية وبين ما وصل إليه العلم ، ثم كان في نفس العام بحثه عن الضمائر في القرآن الذي ألقاه في مؤتمر المستشرقين وفيه حاول تفسير القرآن تفسيراً خاطئاً . وفي نفس الوقت كانت دراساته في كلية الآداب عن القرآن واستخدام كازانوفا ليحدث شباب مصر المسلم عن القرآن مثيراً الشبهات حول المكي والمدني وأثر النصرانية في مكة وأثر اليهودية في المدينة . ولم تمر إلا سنوات قليلة حتى أثار طه حسين شبهة تحريق العرب لمكتبة الإسكندرية .
وفي هذه السنوات كانت محاولة اتهام القرن الثاني الهجري بأنه عصر مجون
كتب بعد ذلك (على هامش السيرة )الذي كان تهكم صريح . ولم يلبث طه حسين أن دعا إلى الفرعونية ودعا إلى الأخذ بالحضارة الغربية حلوها ومرها ، ما يحمد منها وما يعاب ، في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) الذي كان منهجاً لتغريب التعليم المصري .

وفي نقد لـ (مصطفى صادق الرافعي )لأحد كتبه يقول : من كتاب ( في الشعر الجاهلي / طه حسين ) في صفحة 83 : (( ليس يعنيني هنا أن يكون القرآن قد تأثر بشعر أمية أو لا يكون )) فالأمر عنده على حد الجواز كما ترى ، وليس يعنيه أن يكون دينه ودين أمته صحيحاً أو كذباً … ولو كان طه حسين بليغاً من أئمة البلاغة لقلنا رأياً رآه وإن كان كفراً وإلحاداً ، ولكنه هو هو هو … على أن كل كلامه في هذا الكتاب عن القرآن الكريم كلام من نسي دينه بل كلام من لا دين له ، فليس في الأمر عنده كعجزه ولا إعجاز ولا تنزيل .
إن هذا الكتاب السخيف الذي جاءتنا به الجامعة مما تضيق به النفس لكثرة ما فيه من الخطأ ، حتى لا يطيقه إلا من كان في عقل صاحبه وضعف حجته وتهافت آرائه وكثرة سقطه .

ويرد الرافعي على نقد طه حسين لرسائل الأحزان :
أنا لا أقول إن الأستاذ طه حسين ليس شيئاً في فضله وأدبه وعلمه ، بل هو عندي أشياء كثيرة ، بل هو مكتبة تنطق كتبها ، ولكنه لم يلابس صناعة الشعر ولا أساليب الخيال ، ولا أخذ نفسه في ذلك بمزاولة ولا عمل ، فليس له أن ينقد هذه الصناعة ، ولا أن يقول في هذه الأساليب إلا بعد أن يجيء بمثل ما يكتب أهلها ، فإن لم يكن ذلك في طبعه ولا في قوته ولم يستوله شيء منه فلا يغرنه أن يكون مؤرخاً ، ولا يخدعنه أن يكون منطقياً ، ولا يحسبن أن فهم شيء هو فهم كل شيء ، ولو كان الأمر موضوعاً في الأدب على الاتساع في الكلام والقدرة على القول الكثير صواباً وخطأ ، لما كان أكبر أديب هو أكبر الأدباء ، ولكن أكبر الثرثارين ..

ويعلق ( محمد حسين هيكل) على كتاب ( على هامش السيرة قائلاً :
يجب ألا يتخذ ( ما أتصل بسيرة النبي ) مادة لأدب الأسطورة فإنما يتخذ من التاريخ وأقاصيصة مادة لهذا الأدب ، ما اندثر أو ما هو في حكم المندثر وما لا يترك صدقه أو كذبه في حياة النفوس والعقائد أثراً ما . والنبي وسيرته وعصره يتصل بحياة ملايين المسلمين جميعاً ، بل هي فلذة من هذه الحياة ومن أعز فلذاتها عليها وأكبرها أثراً في توجيهها وطه يعرف أكثر مما أعرف أن هذه الإلسرائيليات إنما أريد بها إقامة أساطير ميثولوجية إسلامية لا فساد العقول والقلوب منت سواد الشعب ولتشكيك المستنير ودفع الريبة إلى نفوسهم في شأن الإسلام ونبيه وقد كانت هذه غاية الأساطير التي وضعت عن الأديان الأخرى .

ويضيف (هيكل ):
إن اتجاه طه حسين هذا شديد الخطر ليس على الأدب وحده ولكن على الفكر الإسلامي كله لأنه يعيد غرس الأساطير والوثنيات والإسرائيليات في سيرة النبي مرة أخرى بعد أن نقاها العلماء المسلمون منها .

وتصف الدكتورة ( نعمات أحمد فؤاد ) أسلوب طه حسين قائلة :
الدكتور طه حسين موسيقاه موسيقى العاطفة .. واللفظ عنده يستخدمه لإبراز العاطفة ، وفي هذه الموسيقية يكمن السر في قدرته على الاستهواء والإقناع ، المؤقت على الأقل .. إنه يستطيع أن يأخذ القارئ إلى جانبه إذا رضي أو كره ، وهو أقرب ما يكون إلى القلب حين تصدق عاطفته وتلمس تأثره ، والعاطفة عنده على غلبتها متزنة لا بكاءة ولا تمثيلية .
وهو كاتب خفيف الظل تسري عذوبة روحه إلى لفظه .. أو لعلها عذوبة اللفظ وخفته في الحركة والإيقاع يضفي على روحه .

مؤلفاته :
– تجديد ذكرى أبي العلاء المعري
– في الأدب الجاهلي
– في الشعر الجاهلي
– حديث الأربعاء
– قادة الفكر
– دعاء الكروان
– على هامش السيرة
– مع أبي العلاء في سجنه
– مع المتنبي
– أحاديث
-الأيام
– فلسفة ابن خلون ( وهو رسالة ماحستير بالفرنسية )
– دروس التاريخ القديم
-عثمان
-علي وبنوه
– الحب الضائع
– رحلة الربيع والصيف
– جنة الحيوانات
– أديب
– المعذبون في الأرض
– في الصيف
– من لغو الصيف إلى جد الشتاء

وكان شغوفاً بالأدب اليوناني فترجم بعض آثاره :
– نظام الأثينيين لأرسطو
– آلهة اليونان
– صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان

وفاته : توفي عام 1393هـ الموافق 1973 م

من كتاب لغو الصيف إلى جد الشتاء

كنا نلغو أثناء الصيف ، فلنجد أثناء الشتاء ، وما الذي كان يمنعنا من اللغو أثناء الصيف ، وفي الصيف تهدأ الحياة ويأخذها الكسل من جميع أطرافها فتوشك أن تنام ولا تسير على مهل يشبه الوقوف ، وفي أناة تضيق بها النفوس . كل أسباب النشاط مؤجلة إلى حين ، غرف الاستقبال مقفلة ، وملاعب التمثيل مغلقة أو كالمغفلة ولا تذكر الموسيقى والغناء .


  • هي عاطفة طبيعية تسيطر علينا في أكثر ما نعمل وفي أكثر ما نقول ، وأي غرابة في أن يكون الميل إلى تمصير الحضارة الأجنبية على اختلاف فروعها أظهر ما تمتاز به حياتنا العامة في عصر كهذا العصر الذي نعيش فيه قد اشتدت فيه النهضة الوطنية وقوي فيه الشعور بالقومية المصرية وظهر فيه الحرص واضحاً جلياً على أن تكون شخصيتنا بارزة لا لبس فيها ولا غموض ؟ وقد مضى عصر كنا نستعير فيه الحضارة الأجنبية استعارة من أوربا ونجهر بذلك ونقدم عليه لا نجد فيه حرجاً ولا نحس منه حياء ثم مضى عصر آخر كنا نسرع فيه إلى هذه الحضارة الأجنبية مبتهجين بالإسراع إليها مفاخرين بالأخذ بأسبابها يمتدح الرجل منا بأنه يحسن مجاراة الأوربيين في هذا الأمر وذاك ، ويحسن تقليد الأوربيين في التفكير والقول وغيرهما من أساليب الحياة

من كتاب في الشعر الجاهلي

مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي
علي أني أحب أن يطمئن الذين يكلفون بالأدب العربي القديم ويشفقون علية ويجدون شيئا من اللذة في أن يعتقدوا أن هناك شعرا جاهليا يمثل حياة جاهلية انقضي عصرها بظهور الإسلام فلن يمحو هذا الكتاب ما يعتقدون ولن يقطع السبيل بينهم وبين هذه الحياة الجاهلية يدرسونها ويجدون في درسها ما يبتغون من لذة علمية وفنية بل أنا أذهب إلي أبعد من هذا فأزعم أني سأستكشف لهم طريقا جديدة واضحة قصيرة سهلة يصلون منها إلي هذه الحياة الجاهلية
أو بعبارة أصح : يصلون إلي حياة جاهلية لم يعرفوها إلي حباة جاهلية قيمة مشرقة ممتعة مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة التي يجدونها في المطولات وغيرها مما ينسب إلي الشعراء الجاهلين .
ذلك أني لا أنكر الحياة الجاهلية وإنما أنكر أن يمثلها هذا الشعر الذي يسمونه الشعر الجاهلي فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشي وإنما أسلك إليها طريقا أخري وأدرسها في نص لا سبيل إلي الشك في صحته وأدرسها في القرآن فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي ونص القرآن ثابت لا سبيل إلي الشك فيه أدرسها في القرآن وأدرسها في شعر هؤلاء الشعراء الذين عاصروا النبي وجادلوه وفي شعر الشعراء الآخرين الذين جاءوا بعده ولم تكن نفوسهم قد طابت عن الآراء والحياة التي ألفها آباؤهم قبل الإسلام بل أدرسها في الشعر الأموي نفسه فلست أعرف أمه من الأمم القديمة استمسكت بمذهب المحافظة في الأدب ولم تجدد فيه إلا بمقدار كالأمة العربية فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذي الرمة والأخطل والراعي أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلي طرفة وعنترة والشماخ وبشر ابن أبي خازم .
قلت : إن القرآن أصدق مرآة للحياة الجاهلية وهذه القضية غريبة حين تسمعها ولكنها بديهية حين تفكر فيها قليلا فليس من اليسر أن نفهم أن الناس قد أعجبوا بالقرآن حين تليت عليهم آياته إلا أن تكون بينهم وبينه صلة هي هذة الصلة التي توجد بين الأثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه وليس من اليسير أن نفهم أن العرب قد قاموا القرآن وناهضوه وجادلوا النبي فيه إلا أن يكونوا قد فهموه ووقفوا علي أسراره ودقائقه وليس من اليسير بل ليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدا كله علي العرب فلو كان كذلك لما فهموه ولا وعوه ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر إنما كان القرآن جديدا في أسلوبه جديدا فيما يدعوا إلية جديدا فيما شرع للناس من دين وقانون ولكنه كان كتابا عربيا لغته هي اللغة العربية الأدبية التي كان يصطنعها الناس في عصره أي في العصر الجاهلي وفي القرآن رد علي الوثنيين فيما كانوا يعتقدون من الوثنية وفيه رد علي اليهود وفيه رد علي النصارى وفيه رد علي الصابئة والمجوس وهو لا يرد علي يهود فلسطين ولا علي نصارى الروم ومجوس الفرس وصابئة الجزيرة وحدهم وإنما يرد علي فرق من العرب كانت تمثلهم في البلاد الغربية نفسها ولولا ذلك لما كانت له قيمة ولا خطر ولما حفل به أحد من أولئك الذين عارضوه وأيدوه وضحوا في سبيل تأييده ومعارضته بالأموال والحياة أفتري أحد يحفل بي لو أني أخذت أهاجم البوذية أو غيرها من هذه الديانات التي لا يدينها أحد في مصر “؟
ولكني أغيظ النصارى حين أهاجم النصرانية وأهيج اليهود حين أهاجم اليهودية وأحفظ المسامين حين أهاجم الإسلام وأنا أكاد أعرض لواحد من هذه الأديان حتى أجد مقاومة الأفراد ثم الجماعات ثم مقاومة الدولة نفسها تمثلها النيابة والقضاء ذلك لأني أهاجم ديانات ممثلة في مصر يؤمن بها المصريون وتحميها الدولة المصرية وكذلك كانت الحال حين ظهور الإسلام : هاجم الوثنية فعارضه الوثنيون هاجم اليهود فعارضة اليهود وهاجم النصارى فعارضه النصارى ولم تكن هذه المعارضة هينة ولا لينة وإنما كانت تقدر بمقدار ما كان لأهلها من قوة ومنعة وبأس في الحياة الاجتماعية والسياسية فأما وثنية قريش فقد أخرجت النبي من مكة ونصبت له الحرب واضطرت أصحابه إلي الهجرة وأما اليهودية فقد ألبت علية وجاهدته جهادا عقليا وجدليا ثم انتهت إلي الحرب والقتال وأما نصرانية النصارى فلم تكن معارضتها للإسلام إبان حياة النبي قوية قوة المعارضة الوثنية واليهودية . لماذا؟ لأن البيئة التي ظهر فيها النبي لم تكن بيئة نصرانية إنما كانت وثنية في مكة يهودية في المدينة ولو ظهر النبي في الجيرة أو في نجران للقي من نصارى هاتين المدينتين مثل ما لقي من مشركي مكة ويهود المدينة وفي الحق أن الإسلام لم يكد يظهر علي مشركي الحجاز ويهوده حتى استحال الجهاد بينه وبين النصارى من جدال ونضال بالحجة إلي الصدام المسلح أدرك النبي أوله وانتهي به الخلفاء إلي أقصي حدوده .
فأنت تري أن القرآن حين يتحدث عن الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم من أصحاب النحل والديانات إنما يتحدث عن العرب وعن ديانات ألفها العرب : فهو يبطل منها ما يبطل ويؤيد منها ما يؤيد وهو يلقي في ذلك من المعارضة والتأييد بمقدار ما لهذه النحل والديانات من السلطان علي نفوس الناس . وإذن فما ابعد الفرق بين نتيجة البحث عن الحياة الجاهلية في هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين والبحث عنها في القرآن ! فأما هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين فيظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدنية المتسلطة علي النفس والمسيطرة علي الحياة العلمية وإلا فأين تجد شيئا من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة !أو ليس عجيبا أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدنية للجاهليين ! وأما القرآن فيمثل لنا شيئا آخر يمثل لنا الحياة دينية قوية تدعوا أهلها إلي أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال ف’ذا رأوا أنة قد أصبح قليل الغناء لجئوا إلي إعلان الحرب التي لا تبقي ولا تذر . أفتظن أن قريشا كانت تكيد لأبنائها وتضطهدهم وتذيقهم ألوان العذاب ثم تخرجهم من ديارهم ثم تنصب لهم الحرب وتضحي في سبيلها بثروتها وقوتها وحياتها لو لم يكن لها من الدين إلا ما يمثله هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين ؟ كلا ! كانت قريش متدينة قوية الإيمان بدينها ولهذا الدين وللإيمان بهذا الدين جاهدت ما جاهدت وضحت ما ضحت وقل مثل ذلك في اليهود وقل مثله في غير أولئك وهؤلاء من العرب الذين جاهدوا النبي عن دينهم فالقرآن إذن أصدق تمثيلا للحياة الدنية عند العرب من هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي ولكن القرآن لا يمثل الحياة الدنية وحدها وإنما يمثل شيئا آخر غيرها لا نجده في هذا الشعر الجاهلي يمثل حياة عقلية قوية يمثل قدرة علي الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظا عظيما أليس القرآن قد وصف أولئك الذين كانوا يجادلون النبي بقوة الجدال والقدرة علي الخصام والشدة في المحاورة وفيم كانوا يجادلون ويخاصمون ويحاورون ؟ في الدين وفيما يتصل بالدين من هذه المسائل المعضلة التي ينفق الفلاسفة فيها حياتهم دون أن يوفقوا إلي حلها في البعث في الخلق في إمكان الاتصال بين الله والناس في المعجزة وما إلي ذلك أفتظن قوما يجادلون في هذه الأشياء جدالا يصفه القرآن بالقوة ويشهد لأصاحبه بالمهارة أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلي الجاهليين كلا لم يكونوا جهالا ولا أغبياء ولا غلاظا ولا أصحاب حياة خشنة جافية وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة . وهنا يجب أن نحتاط فلم يكن العرب كلهم كذلك ولا يمثلهم القرآن كلهم كذلك؛ وإنما كانوا كغيرهم من الأمم القديمة وككثير من الأمم الحديثة منقسمين إلى طبقتين: طبقة المستنيرين الذين يمتازون بالثروة والجاه والذكاء والعلم؛ وطبقة العامة الذين لا يكاد يكون لهم من هذا كله حظ ،القرآن شاهد بهذا .

error: