شجاعة النبي وقوته
الشجاعة كما عرفها ابن القيم: “هي ثبات القلب عند النوازل”، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان أشجع الناس على الإطلاق، والسيرة النبوية مليئة بالمواقف الدالة على مدى شجاعته وقوته، تلكم الشجاعة والقوة التي تجلَّت في أروع صورها جهاداً في سبيل الله، وثباتاً عند الشدائد والنوازل، ودفاعاً عن الحق ونصرة للمظلومين، وقد شهد له بذلك أصحابه وأعداؤه، إذ كان صلوات الله وسلامه عليه من الشجاعة بالمكان الذي لا يُجهل، حضر المواقف والمعارك الصعبة، وهو ثابت لا يتزحزح، قال علي رضي الله عنه: “كنا إذا حمي البأس (القتال)، واحْمرَّت الحَدَق، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه” رواه أحمد، وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة، فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبى طلحة عُرْي (مجرد من السرج)، وفي عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا (لا تخافوا ولا تفزعوا)) رواه البخاري. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: “ما رأيتُ أشجع ولا أنْجد (أسرع في النجدة) من رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
والأمثلة الدالة على شجاعته وقوته صلى الله عليه وسلم من سيرته وحياته كثيرة، ومنها:
شجاعته صلى الله عليه وسلم :
ـ في غزوة بدر وأحد وغيرهما من غزوات قاد النبي صلى الله عليه وسلم المعارك والقتال بنفسه، وخاض غمار الموت بروحه، وقد شُجَّ في وجهه، وكُسِرت رَباعيتُه كما روى البخاري ومسلم.
ـ وفي يوم حُنَيْن ثبت صلى الله عليه وسلم في وجه الآلاف من هوازن، بعد أن تفرق عنه الناس خوفاً واضطراباً من الكمين المفاجيء الذي تعرضوا له من هوازن، ويصف البراء بن عازب رضي الله عنه هذا الموقف فيقول لرجل سأله: (أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: (أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولَّى، ولكنه انطلق أخِفَّاء من الناس وحُسَّر (من لا سلاح معهم) إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل كأنها رِجْل (قطيع) من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول:أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) رواه مسلم.
فلم يفرَّ صلى الله عليه وسلم من معركة قط، وما تراجع خطوة واحدة حين يشتد القتال..تقوم الحرب وتُشرع السيوف، ويدور كأس المنايا على النفوس، فيكون صلى الله عليه وسلم في هذه اللحظات العصيبة أقرب أصحابه من الخطر، لا يكترث بعدوّه ولو كثر عدده، ولا يأبه بالخصم ولو قوي بأسه، ومن ثم كان أصحابه يحتمون به عند النوازل والشدائد وهو ثابت شجاع، قال البراء: “كنا والله إذا احمر البأس (الحرب) نتقى به، وإن الشجاع منا للذي يحاذى به ـ يعنى النبي صلى الله عليه وسلم ـ” رواه مسلم، وقال ابن كثير في تفسيره بعد سياق هذا الحديث: “وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة، أنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى، وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا على بغلة، وليست سريعة الجري، ولا تصلح لفر ولا كر ولا هرب، وهو مع هذا يركضها على وجوههم وينوه باسمه”.
ـ وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غَزَاة قِبَلَ نَجْد، فأَدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القائلة في واد كثير العِضَاهِ (شجر فيه شوك)، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فَعلّق سيفه بِغُصْن مِن أغصانها، وتفرّق الناس في الوادي يستظلون بالشجر .. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، والسيف صَلْتا (مسلولا) في يده فقال: مَن يَمْنَعُكَ مني؟ قلت: الله، فشامَ السيف (رده في غِمْده)، فها هو ذا جالِس، ثم لم يعرِض له رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
قال ابن حجر في فتح الباري: “وفي الحديث فرط شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوة يقينه، وصبره على الأذى، وحلمه عن الجهال”.
قوته البدنية صلى الله عليه وسلم :
ـ من أمثلة قوته صلى الله عليه وسلم البدنية ما حدث يوم حفر الخندق في غزوة الأحزاب، ففي أثناء حفر الخندق عجز الصحابة رضوان الله عليهم عن كسر صخرة عظيمة عرضت لهم في طريق الحفر، فاستنجدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ المعول وضربها حتى عادت كثيباً أهيل ـ كالرمل الذي لا يتماسك ـ، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، قال وعرض لنا فيه صخرة لم تأخذ فيها المعاول، فشكوناها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول ثم قال: باسم الله، فضرب ضربة، فكسر ثلث الحجر، وقال:الله أكبر، أُعْطِيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: باسم الله، وضرب أخرى، فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: باسم الله، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا) رواه أحمد وحسنه الألباني في فقه السيرة.
ـ وفي قصة مصارعته صلى الله عليه وسلم مع ركانة وغلبته له، دلالة على مدى قوته صلى الله عليه وسلم البدنية، فقد بلغ ركانة من القوة أنه لم يستطع أحد أن يأتي بجانبه إلى الأرض، وقد روى هذه القصة أبو داود وغيره، وفي بعض روايات هذه القصة ضعف، وهناك رواية حسنها الألباني وفيها: (وقد صارع النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً معروفًاً بقوته يسمى ركانة، فصرعه (غلبه وهزمه) النبيُّ صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، وفي رواية: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صارعه وكان شديداً، فقال: شاةً بشاةٍ، فصرعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: عاودني في أخرى، فصرعه، فقال: عاودني، فصرعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم الثالثة، فقال الرجل: ماذا أقولُ لأهلي؟! شاةً أكلها الذئبُ، وشاةً نشزت، فبما أقول في الثالثة؟! فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ما كُنَّا لنجمع عليك أن نصْرعك ونغرمَك، خذْ غنمَك).
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: “وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنه: أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم فلما كان في الثالثة قال: يا محمد، ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إليَّ منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وردَّ عليه غنمه”.
لقد كانت شجاعة وقوة نبينا صلى الله عليه وسلم أمراً ظاهراً في حياته وسيرته، يقول القاضي عياض: “أما الشجاعة والنجدة: فالشجاعة فضيلة قوة الغضب وانقيادها للعقل، والنجدة ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت حيث يُحمد فعلها دون خوف، وكان صلى الله عليه وسلم منهما بالمكان الذي لا يُجْهَل، قد حضر المواقف الصعبة وفرَّ الكماة (الفرسان الشجعان) والأبطال عنه غير مرة، وهو ثابت لا يبرح، ومُقْبِل لا يُدْبِر ولا يتزحزح، وما شجاع إلا وقد أُحْصِيَت له فرة وحفظت عنه جولة، سواه (غيره صلى الله عليه وسلم)”.. ومـع هـذه الشجاعة البالغة، والقـوة العـظيمة التي كان يتحـلى بها صلى الله عليه وسلم، إلا أنها لم تكن أبداً شجاعة وقوة بطش إلا في مواطن قتال الأعداء والجهاد في سبيل الله، فمن الثابت والمعروف عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يضرب امرأة ولا خادما أبداً، ولم يَنتقِمْ لنفسِه قطُّ، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: (وما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قطُّ، إلا أن تُنْتَهَك حرمةُ الله؛ فينتقم لله تعالى) رواه البخاري. وفي رواية لمسلم قالت رضي الله عنها: (ما ضربَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خادمًا له ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قطُّ، إلا أن يجاهدَ في سبيل الله). ومن ثم فقد كانت أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم مضرب المثل والقدوة، فهو شجاع في موطن الشجاعة، قوي في موطن القوة، عفو في موطن العفو، رحيم رفيق في موطن الرحمة والرفق، فصلوات الله وسلامه عليه، وقد قال الله تعالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4).