رواية “حصنك الغائب”
الفصل السادس!
يتشاركا السير بتلك البقعة الخلفية لحديقة منزل جوري التي تسائلت:
ماقولتيش ياعطر.. كتبتي أي كلية في أول رغباتك؟!
أجابت بثقة: هندسة المنصورة!
هتفت بمكر: طبعا عايزة تكوني زي آبيه يزيد.. طول عمرك معتبراه مثل أعلى!
هتفت بضيق: أنا مش عايزة ابقي زي حد.. انا من زمان مقررة ادخل هندسة واتخصص في المعمار.. تنكري أن بحب التصميم من زمان ؟!
جوري بصدق: الحقيقة لأ..حتى آبيه يزيد دايما كان يقول إنك هتبقي مهندسة معمارية شاطرة لما كنتم تتناقشوا وقال عندك خيال جمالي لو اتطبق على المباني هتعملي تحف فنية!
كسى ابتسامتها حزن وهي تتذكر مدحه، ولم تعقب، فاستأنفت: إنتي لسه زعلانة من آبيه يزيد يا عطر؟
عصفت عيناها بوجع حاولت مواراته بجمود نبرتها: عادي..أزعل أو لأ.. هي فارقة؟.. ده سافر ومافكرش يسأل عني ويسلم!
_ أنا كمان استغربت ومافهمتش السبب! هو لما راح يصالحك قبلها وجايبلك هدية نجاحك.. حصل حاجة تاني زعلته منك وأنا معرفش؟!
صمتت ولم تجيب، فهتفت جوري بريبة: والله حاسة أن بغبائك عملتي مصيبة.. آبيه عمره ماتجاهلك كده.. عملتي أيه يا ام عقل طاير!
تحول صمتها لهجوم: من فضلك يا جوري.. أنا مش غبية ولا عقلي طاير.. من حقي ازعل أما يضربني عشان “سمو البلقيساية” بتاعته..!
جوري: أكيد من حقك..وأنا عاتبته وماما كمان زعلت معاه.. وهو أصلا اما هدي من نفسه حس انه غلط وحاول يصالحك أكتر من مرة وانتي كنتي بتتعمدي تختفي، أو مش تردي اتصالاته..ومع كده مش هونتي عليه واما نجحتي، جابلك هدية وراح عندك.. المفروض يبقى في دم وتسامحي، ده بردو آبيه يزيد!
هتفت ببؤس لم تدرك جوري حقيقة أسبابه: ماهو عشان عندي دم مسامحتش!..أنا مقبلش الإهانة من حد وبالذات لو من يزيد! اللي ذلني قصاد بنت عمك.. كسر خاطري قدامها..وتابعت بنبرة أكثر ألمًا:
وفي نفس الوقت عينه كانت بتشرب ملامحها كأنه ما صدق يشوفها رغم إنها سابته وجرحته..!
ترقرقت عيناها لذكرى ما حدث، واستطردت: أنا مش عيلة هيصالحني بكوتش وسلسلة، مش هنسى ابدا إنه كسرني ونصر غرورها عليا..!
هل تبالغ قليلا؟! هكذا شعرت جوري بردة فعل عطر، لم تكن يومًا بهذا العناد والقسوة والحساسية المفرطة! ..كانت تظن أن مجرد رؤيتها لهدية شقيقها واهتمامه بها، سيُجبر خاطرها وترضى!
تمتمت بخيبة أمل:
كان نفسي تكوني متسامحة وتغفري.. آبيه يزيد طيب يا عطر وانتي عارفة حنيته، هو مااتكبرش يقول غلطت وحاول يراضيكي.. ليه بتصعبي الموضوع كده، وواصلت: افهم من كده إنك رفضتي الهدية وعشان كده هو زعل منك وخاصمك؟!
عطر ببعض الخجل الذي اعتراها رغم غضبها منه: مش بس رفضتها.. أنا رميتها قدامه على الأرض!
_ نعم؟!!!!
هتفت جوري باستنكار ودهشة: رمتيها؟! ازاي تحرجيه كده وتسيئي الأدب معاه؟ عطر احنا غلطنا وزودناها فعلا مع بلقيس، كان المفروض نرد باختصار ونمشي.. ومع كده اخويا ندم وزعل من نفسه أوي انه ضربك وقال هيصالحك وإنك مش تهوني عليه..زي ما صالحني قبلك .. كان لازم انتي كمان تقدري اعتذاره ليكي وتحترميه أكتر من كده، ده أكبر منك.!
لمحة من العناد تلبستها ثانيًا: لأ.. أنا مش عيلة اما اشوف هديته هنسى! واغرورقت عيناها وفقدت السيطرة على زمام أمرها مغمغمة دون أدراك: أخوكي بعد ده كله لسه بيحب الهانم! للدرجة دي حبه أعمى ومش شايف قبحها؟؟ ماعندوش عقل يميز بيه مين يستاهله ومين لأ؟!!!
فقدت عطر كل تعاطف جوري التي هتفت بصرامة: ما اسمحلكيش تتكلمي كده عن يزيد ياعطر.. واخويا عقله يوزن بلد.. وهو رد فعله “اتبنى” على تجاوزنا مع بلقيس، وزعقلي زيك وبهدلني في البيت!
قاطعتها الأخرى هادرة بثورة: بس ماضربكيش ياجوري! أنا وجعي من سبب ضربته يمكن أقسى كتير من الضربة نفسها..! صمتت لتغمغم بعدها دون شعور: لحد إمتي هيفضل يحبها وأنا اللي اتعذب!!
رمقتها “جوري” بريبة، لأول مرة لا تفهم رفيقتها.. ماشأنها إن ظل شقيقها يعشق بلقيس؟ لما تتعذب هي وتكون طرفًا بينهما؟؟؟؟
تداركت ” عطر” هذيانها الأحمق، وجففت دموعها بتوتر، متجنبة النظر لعين جوري المُتفرسة بصمت:
عموما خلاص.. انتهينا.. مش هنتكلم في الموضوع ده تاني! عن أذنك يا “جوري”..!
ترجلت بعيدًا عنها، فراقبتها جوري بنظرة ثاقبة، وخاطر ما بدا يضوي بعقلها وتكذبه.. فإن صدق حدسها.. حينها ستصبح عطر بمأزق حقيقي..وتحتاج المساعدة..!
هزت رأسها وواصلت السير متمتمة بخفوت:
_ أنا هعرف ازاي اتأكد من الظن الخطير ده.. ويارب تكون مجرد أوهام وفهم خاطيء مني.. وإلا هتتوجعي كتير يا بنت خالتي..وانا كمان قلبي هيتوجع عشانك.. ربنا يستر..!
( مفتقد يزيد جدا يا يا سين!)
تمتم الأخير وهو يجفف قطرات الماء عن جسده بعد أن أنتهى من دقائق من ممارسة السباحة: طبيعي يا “عابد”.. وانا كمان افتقدته.. بس عادي هو مش بعيد.. ممكن نخطف يومين انا وانت نزوره ونرجع..!
_إن شاء الله، وبعدين أنت سنة وتشتغل معاه.. انما أنا بقى لسه قدمي التجنيد قبل أي حاجة.. وتمتم بغيظ: ليه مايخلوش الجيش حسب الرغبة..!
ضحك ياسين: ده انت بتحلم.. بس هما 9 شهور وهيعدوا وتبقى حر!
هتف الأول بحقد : أنت فلت من الجيش لأن مالكش اخوات غير عطر يا ابن المحظوظة!
سعل ياسين بقوة أثناء تجرعه بعض المياة، وهتف بحنق: يخربيت عينك المدورة.. كنت هتجيب أجلي!
قهقة عابد عاليًا: أحسن خلينا نرتاح منك!
وقبل أن يلتفت إليه، كان ياسين يدفعه على حين غرة ليسقط بحمام السباحة مرة أخري! محدثًا بسقوطه المفاجيء زوبعة متناثرة من قطرات المياة ازعجت من حوله، وجعل بعضهم يغمغم باستياء، فرمق ياسين بنظرة نارية متوعدًا:
هي بقيت كده؟ طب لاحق بقى على قلة الأصل.. أنا هعلمك الأدب يا ياسين!
ضحك الأخير والتقط كنزته ملوحًا له: ابقى أرجع كده البيت ياعريض المنكبين! وواصل باستفزاز: والعربية والفلوس معايا.. ارجع البيت مشي بقى واتشمس شوية?
واختفى سريعا وهو يضحك، وعابد خلفه يجز على أسنانه غيظًا جعله يضرب المياة بقبضتيه، فأزعجت قطرات المياة المندفعة بوجوه المحيطين ثانيًا. ونال المزيد من نظراتهم الساخطة!
………………… .
أتشوووووو!
كريمة بقلق: ألف سلامة ياعبودي.. خد العلاج ده ونام شوية وهتصحى زي الفل يا حبيب ماما.. مش فاهمة حصلك إيه كنت ماشي كويس!
عابد: أتشووووو… في كلب خد التيشرت و… أتشووو.. وجري ومالحقتش اتصرف، فخرجت من النادي كده..واخدت تاكس من قصاد البوابة و..أتشووو..وجيت هنا وخليت البواب يحاسبه.! اللي مضايقني أن .. أتشووووو… الناس قعدت تبصلي باستغراب وأنا ماشي! ..وواصل بمزاح رغم حالته:
_ بس اللي هون عليا يا “كيما”..أتشووووو.. إن إبنك جسمه عريض ومتقسم وأكيد سحرت البنات هناك!
ضحكت لمزاحه ونكزته بجانب رأسه: طب لم نفسك واختشي قصاد امك يا سارق قلوب العذارى.. يلا نام بقى وانا هوصي ام السعد تعملك شوربة خضار خفيفة!
_ اعمليها أنتي يا ماما..بحبها من إيدك!
ربت على شعره بحنان: من عنية ياحبيبي.. وهشويلك فرخة معاها.. وبإذن الله بكرة بالكتير وهتكون خفيت.. ثم لثمت جبينه ودثرته بغطاءه وأحكمت خلفها غلق الباب بعد أن خفتت أضاءة غرفته!
______________________٠
لا تصدق إلى الآن انها تحادثه سرا بهاتفها.. وتقضي معه ساعات تستمتع بحديثه وغزله الذي أسعدها وأرضاها..تذكرت وهي بالجامعة حين كانا يلتقيا خلسة في المكتبة، وعيناه التي كانت تلتهم تفاصيلها بنهم وربما شعرت ان نظراته تقترب من الوقاحة حين يطالعها ..لكن عقلها لم يبرر وقاحته سوى أنه عشقًا..ولكلٍ طريقته بالعشق.. يزيد أيضًا عشقها لكن بطريقته المتحفظة كثيرًا..خجلت من نفسها.. هل راقها نظرات رائد لها وتجنبت تفسيرها؟؟ وداخلها يُجمل الوضع ويصفها فقط “الجرآة” ؟! أم أن حبها وانجذابها الحقيقي له هو ما يجعلها تُسقط من عقلها عمدًا أي شائبة تُدنس نظراته لها؟! مهما يكن الأمر.. بالأخير هي منبهرة به! ” رائد” هو تمامًا ما حلمت به..!
ابتسمت بحالمية وهي تتذكر وعده لها بخطبتها قريبًا بصحبة ووالدته وشقيقه!.. لأول مرة لا تخبر رفيقتها تيماء بشيء.. وتخاف حتى إخبار والديها عنه.. ولكن لا بأس! ليكون لديها لأول مرة سر صغير خاص بها بعيدًا عن إدراك الجميع.. ستنتظر لحظة قدومه لتقول انه مجرد زميل رغب بها.. لن تذكر علاقتهما كى لا تهتز ثقة والديها..!
رنين هاتفها مخترقًا أجوائها الشاردة..وما أن تبينت شاشته حتى ابتسمت بهيام.. إنه هو! تأكدت سريعًا من إحكام باب غرفتها. ثم اجلت صوتها لتخفي لهفتها الواضحة، وقبل أن تتفوه هي، فاجأها بقوله اللاهف:
وحشتيني بجنون!
تخضبت وجنتاها بشدة: يا سلام..يعني لحقت اوحشك!
تمتم بهيام دغدغ أوتار قلبها: بتوحشيني دايمًا يا بلقيس عارفة ليه؟
هتفت بنعومة: ليه يا ترى؟
عم الصمت لحظات قبل أن يقول:
لأن كل اما بفكر فيكي وبسرح واتصورك قصادي.. بتمنى اعمل حاجات كتير مش قادر أمنع خيالي عنها.. انا أوقات بنهي معاكي المكالمة عشان اخد نفسي من تأثير حتى صوتك.. عشان كده حبيت اقولك إني خلاص كلمت والدتي إني عايز اخطبك.. ولو والدك وافق بأذن الله هطلب منه يوافق على كتب كتاب مع الخطبة.. وواصل بصوت أجش أشعل مشاعرها: لازم يوافق.. وإلا مش مسؤل لو اتهورت!
لا تحتاح الآن لمرآه كي تتأكد يقينًا من رؤية الحُمرة التي كست خديها.. قلبها تتسارع دقات بسعادة وشوق.. لم تجد أي اعتراض من فكرة عقد قرانهما بل تمنته مثله.. تمنت أن يصير أقرب وأقرب.. وتعجبت حين قارنت بخيالها سريعا ردت فعلها حين طلب يزيد أن يعقد قرانهما.. وكيف استنكرت وكادت ترفض بفظاظة، لولا أن أعفاها قرار والدها نفسه بالتروي وعدم الاستعجال.. أما الآن فقلبها يكاد ينخلع من صدرها ويرقص طربًا من فرط شعورها..ولم يعد هناك مجالًا للشك في قوة وصدق مشاعرها.. هي بكل وضوح.. أصبحت تعشقه، تدمنه..وتريده!
في شركة الإنشاءات!
يزيد: أخبار اعلانات السكرتارية إيه يا أحمد؟
أجابه بثقة: الحمد لله، اختارت واحدة حسيتها الأنسب بين كل اللي اتقدموا..! وواختارت كمان عامل هيكون مسئول عن النظافة.. وساعي للمشروبات.. يعني أنا بختصر في عدد اللي هيساعدونا عشان مش عايزين أي تكاليف زيادة واحنا لسه في البداية! واستطرد: بس عندي اقتراح!
_ اتفضل.. اقتراح إيه؟
_ بدال ما ندور على مهندسين غرب يشتغلوا معانا.. طب ما نستعين بزمايلنا اللي بنثق فيهم.. زي ناصر مثلا.. كان شاطر جدا وأمين وعارفينه، وكمان هو أولى من الغريب وهنبقي وفرنا له فرصة عمل كويسة!
راق يزيد الأقتراح، فأردف بنفس الحماس:
انا ازاي أصلا مجاش في بالي نستعين بيهم؟ انا موافق جدا.. وكمان هكلم المهندس نادر ينضم لينا..!
_ نادر لا غبار عليه هو كمان.. وكده نبقي فريق قريب من بعضه وقلبنا هيكون على الشغل.. وكمان انت قلت ابن خالتك ياسين هينضم لينا ويمسك الداتا والحسابات.. صح؟
أومأ مؤكدًا: أيوة فعلا لأنه مشارك بنسبة 25% ..!
أحمد: وله أخت هتدخل هندسة مش كده؟
_ أيوة ” عطر” بنت خالتي، بس لسه بدري عليها.. دي في أول دراستها..!
أحمد: عادي على ما شركتنا تشد حيلها شوية، تيجي في سنة تالتة مثلا، تدرب معانا في أجازتها وتكتسب خبرة لحد ماتتخرج!
وواصل باضاح: لما شغلنا يبتدي بفريق قريب سواء بأصدقائنا أو قرايبنا. هنضمن كله هيشارك مجهوده بحماس وصدق مماثل.. أحنا محتاجين ناخد فرصتنا في عالم الإنشاءات ونكسب سمعة في وقت قياسي!
_ بإذن الله هيحصل.. وهيساعدنا عمي عاصم ومساندته لينا لأنه رشحنا لكام عميل يعرفه.. وهما بالفعل على أتم استعداد يعطونا فرصة!
_ الحمد لله يا يزيد.. بأذن الله متفائل جدا..!
ربت على كتفه: طول مافي إخلاص.. هنحقق حلمنا!
الأحلام.. هي أمنيات نتمنى تحقيقها، وتظل مختبئة خلف أستار أجفاننا المسدلة ليلًا.. لتنمحي من الأذهان فور حلول الصباح.. أما الكوابيس، فهي على الأغلب حقيقة نخشاها، فتأتينا گ ناقوس خطر بتفاصيل مفزعة حين نستسلم لغفوة، ويبدأ صدوح أجراسها المرعبة حين نستعيد إدراكنا..وكأنها تطرق رؤسنا عمدًا، كي نواجهه سطوة ما نخافه بواقعنا، بأعين منفرجة.. وعقل متيقظ لما حوله!
تتشرب وسادتها قطرات العرق المنساب من وجهها الذي تجعدت قسماته .. كأنها تحارب مجهولًا..وعقلها يُجسد لها حفرة مظلمة تبتلعها بغتة ، فتُخفيها عن سطح الأرض.. وكأنها مقبرة! ثم ينبثقُ فجأة ممر ممتد طوله لامتار كثيرة، وگأنه نفق شديد الضيق.. وتشعر أنها ملتصقة بجداره بعجزٍ تام عن تحرير جسدها الهزيل، ورغم ظلمته، ترى من بعيد إبنتها مكلبة في أخره، تحوطها غربان سوداء من جميع الجاهات.. تصرخ بأسمها.. فلا تغادر صرختها حدود حلقها..حتى صوتها أسير گ ابنتها التي تواجه خطرًا ما.. تستغيث بها، وهي عاجزة عن إغاثتها.. فتظل تصرخ، لعل صرختها تتجاوز الحلق ويسمع صوتها أحدًا فوق الأرض!
_ بلقييييييييس!
نهض مفزوعًا، وصوت آنات زوجته يصل لمداركه، فاستفاق بغته، وأيقظها وجفف وجهها المبتل بعرقها، ثم استدار متناولًا من جواره كوب ماء وناوله لها هاتفا: أشربي مية يا حبيبتي واستعيذي من الشيطان.. ده مجرد كابوس يادرة أهدي!
تجرعت القليل من كوبها بيدٍ مرتجفة، ووضعته جانبًا هاتفة بخوف شديد:
معرفش ليه الكابوس ده بيتكرر معايا يا عاصم.. أنا خايفة على بنتي، كأن في حاجة هتأذيها..!
ضمها لصدره مربتا على كتفها: مين ممكن يأذيها بس.. أنتي بس اللي قلبك ضعيف وبتخافي عليها.. ويجوز عشان شديتي معاها قبل ما تنامي وزعقتي ليها..!
مسحت العرق من وجهها وهتفت بحزن:
ماكنتش عايزة ازعلها.. بس انا مش موافقة تحضر عيد ميلاد صاحبتها ويبقى في شباب يا عالم بنوياهم.. ثم ترقرقت عيناها: أنا عارفة ياعاصم إني مزودها.. بس اعمل إيه، بخاف عليها، بلقيس بنت خام ولا راحت ولا جت.. دي هي اللي حيلتنا..!
شدد في ضمها أكثر وقال: يعني انا اللي مش بخاف عليها؟ بس انا شايف إننا نعطيها مساحة شوية يادرة، خليها تروح عيد ميلاد صاحبتها، أهو في نادي عام وهتبقي وسط ناس كتير، والسواق مسؤل يوديها ويجيبها..! واستأنف حديثه:
وبعدين بلقيس بنت ذكية. وبتلعب لعبة قتالية تخليها تحمي نفسها من أي حد.. ومع كده هي المرة دي وبس اللي هنسمحلها تحضر حفلة.. اما تصحى الصبح صالحيها وبلغيها على لساني إني موافق تروح، والساعة 8 بالدقيقة تكون في البيت، والسواق يكون معاها..!
تنهدت وهزت رأسها بنفي: مش هعرف أنام إلا اما اراضيها..خلاص نام انت وانا هروحلها ..وربنا يحفظها لينا يا عاصم ويبعد عنها السوء!..
_ اللهم امين.. بس ارجعي تاني، ئوعي تنامي معاها..!
ضحكت بخفوت رغمًا عنها: لسه زي ما انت.. طفل كبير ماتعرفش تنام من غيري!
منحها نظرة ماكرة: ولسه زي ما انا بعاقبك لو صحتيني من نومي لأي سبب!..متتأخريش بقى عشان تاخدي عقابك!
نكزت كتفه بدلال ألهاها عن توترها منذ قليل:
مش جاية.. هنام مع بنتي!
شاكسها: متحاوليش انا صحيح كبرت.. بس لسه عنيد دُرتي!
تنهدت ورمقته بامتنان وهي تفطن جيدًا لمحاولته إصراف ذهنها عن قلقها: أنت وبلقيس أعز وأغلى ما عندي ياعاصم.. ودعوتي في صلاة.. إن. ربنا مايختبرنيش في حد فيكم.. ثم ربتت على كفه:
هصالحها واجيلك.. مش هتأخر!
شيعها بنظرة محبة، ثم توسد فراشه مرة أخرى وتمتم داخله: ربنا يحفظكم ليا.. ويقدرني ابعد عنكم أي أذى طول ما انا عايش!
ذمت شفتيها بضيق: حتى أنت كمان يا رائد مش موافق احضر عيد ميلاد صاحبتي؟ مش كفاية بابا وماما رافضين!
تمتم باعتراض: أنا معترض تخبي على أهلك مكان العيد ميلاد.. وبعدين مش من حقي اخاف عليكي. مش انتي حبيبتي وهتكوني مراتي بعدين؟!
داعب أوتار قلبها أخر حديثه كونها ستصبح له يومًا، وارتسمت ابتسامة حالمة فوق شفتيها، ثم تذكرت رغبتها الشديدة بالحضور كما وعدت رفيقتها، فعاندت: بلاش أنت كمان تأيدني يا رائد.. عشان خاطري وافق.. ده انا لسه هحاول اقنع ماما وبابا وبجد حرام الحبسة دي.. انا كأني في سجن مش مسموحلي اروح مكان لوحدي وبراحتي!
لانت ملامحه قليلا وقد ساءه غضبها، فهتف بحنان لمسها من صوته:
طب ماتزعليش.. وموافق تروحي.. بس بشرط ترجعي بدري.. وانا هوصلك وانتي راجعة، أهي فرصة اشوفك واوصلك لبيتك بأمان!
تهلل وجهها: ميرسي يا رائد إنك وافقت..وللأسف مش هينفع توصلني.. الصبح تيماء هتكون منتظراني قرب الجامعة وهنمشي سوا واما ارجع هيكون منتظرني السواق.. بس أول ما ارجع هطمنك بالتليفون.. اتفقنا.. ؟
تمتم بحب: ماشي، بس هكلمك كل شوية اطمن عليكي هناك!
هتفت: بلاش انت تتصل..أكيد تيماء هتكون معايا اغلب الوقت.. وانا بصراحة مش حكيتلها عنك.. انا ماجبتش سيرتك لحد خالص، مستنية اما تكون خطوبتنا رسمي، بعدها كله هيعرف! وعشان تطمن، انا كل فرصة هتصل بيك!
أزعن لرغبتها: ماشي ياقلبي هسيبك. تنامي.. بس ابعتيلي رسالة حلوة ع الواتس عشان احلم احلام سعيد!
هتفت بخجل تجلى بصوتها الرقيق: ماشي!
تسائل قبل إنهاء مكالمته: صحيح عندي فضول اعرف مسجلاني إيه على تليفونك؟
تبسمت بمشاكسة: أقولك وماتزعلش مني؟
_ لا مش هزعل.. قولي!
ترددت قليلا وهتفت باستحياء: مسمياك ريري بتاعة المكتبة!
هتف باستنكار: نعم؟؟؟ ريري؟! بقى رائد يتحول ريري؟!
ضحكت بخفوت: امال اسميك إيه.. ماما بتشوف تليفوني.. انا بعد ما بنتكلم كتابة بمسح كل الرسايل.. أنا مش عايزة كلامنا يتكشف لئن لو ده حصل ممكن مش يوافقوا عليك اما تيجي تطلب إيدي.. وهيزعلوا وتبقى نصيبة أصلا.. ثم تنهدت مردفة: أنا أصلا مستغربة نفسي.. ازاي اكلم حد في السر من ورى الكل
انا عمري ماخبيت عن أمي حاجة..بس بجد بقيت خايفة اخسرك.. بخبيك عشان لما ربنا يجمعنا مايبقاش في سبب يبعدنا.. بابا صعب في تفكيره، ومش هيقبل اكون بكلم حد.. أنت فاهمني؟!
هتف بصوت بدا هائمًا: فاهمك ياعمري.. وهانت.. قريب هتكون علاقتنا في النور ومش هتخافي من حد ولا من حاجة.. واستطرد بنبرة أكثر عاطفة: يلا حبيبتي نامي عشان بكرة تكوني مرتاحة في عيد الميلاد.. وهنتظر طول الوقت تكلميني!
سمعت فجأة طرقات على باب غرفتها وصوت والدتها يناديها. فارتبكت وهتفت سريعًا: طب يارائد اقفل بسرعة ماما جت.. سلام!
ولجت والدتها وهتفت: انتي لسه صاحية حبيبتي!
_ أيوة يا ماما مش جايلي نوم!
اقتربت لتجاورها بالفراش، واحتضنتها وهي تقبل جبينها: لسه مخاصمني عشان خايفة عليكي!
أجابت بعبوس:
يا ماما انا مقدرش اخاصمك.. بس انا بجد حزينة إن كل اللي في عمري بيخرجوا براحتهم، وأنا كل مكان لازم معايا السواق، ومش مسموح ابدا اتحرك من غيروا، ولا سمحتولي برحلات جامعة ولا أي منفذ.. فيها أيه أما اتعامل لوحدي واقضي مشاوير بنفسي زي أي حد! حتى عيد ميلاد صحبتي اللي هتعمله في نادي رفضتي اروحه لما قولتلك هتأخر لبليل، أشمعني الباقي هيحضر ويتأخر عادي؟!.ما هما كمان عندهم اهل بيخبوهم ويخافوا عليهم.. بس بيثقوا فيهم وبيتركوا ليهم مساحة من الحرية! لحد أمتى هفضل طفلة في نظركم، أنا خلاص اتخرجت من الجامعة.. بجد حرام عليكم! أنا حاسة إني محبوسة ومش عايشة سني، وزمايلي ياما اتريقوا عليا..!
وشرعت في البكاء، وليس تمثيلا كما كانت تنتوي، هي بالفعل حانقة مستاءة من حصارهما..!
لم تتحمل ” درة” بكاء ابنتها، فاحتضنتها برفق:
أهدي يانور عيني بلاش عياط عشان خاطري..وواصلت: بكرة يابلقيس تتجوزي ويبقى عندك ولاد ساعتها بس هتفهمي خوفنا عليكي! عموما ماتزعليش، أحضري الحفلة مع أصحابك وانبسطي، بس بشرط مش هتنازل عنه، راغب هيوصلك ويرجع ياخدك وقت ما تخلصي حفلتك وتتصلي بيه! وكل ساعة هتصل بيكي، إياكي ألاقي تليفونك مشغول وماترديش عليا أنا وابوكي!
عانقتها بلقيس بسعادة گ طفلة وهتفت: أيوة كده يا مامتي الحلوة..!
تنفست الصعداء لحصولها على الموافقة اخيرًا، ويؤنبها ضميرها لإخفائها بعض حقيقة مكان الحفل، ولكن ماذا تفعل هي أكيدة أن والدتها ووالدها ايضا لن يسمحوا بذلك.. حسنًا .. ستخوض رحلة ممتعة وتعود إليهم.. فما الضرر؟!!!!
عبر الهاتف!
_ صباح الخير يا تيماء، فينك؟
_ صباخ الفل، أنا مستنياكي عند البوابة بتاعة الجامعة!
_ تمام، أنا دقيقتين واكون عندك!
اغلقت الهاتف، والتقطت حقيبة يدها استعدادا للمغادرة، وبالفعل توقف سائقها العم راغب متمتما باحترام: وصلنا يا بلقيس هانم!
قالت: ماشي ياعمو راغب، استنى مني اتصال زي ما اتفقنا، هتيجي هنا بالظبط تاخدني!
همت بالنزول، فأوقفها قائلا:
لحظة ياهانم، نسيت اقولك إن تليفوني للأسف اتسرق مني امبارح بالشريحة، وجبت خط تاني.. ثم ناولها ورقة صغيرة مرددا: ده الرقم سجليه!
قالت وهي تدس الورقة. بجيب بنطالها الجينز الضيق: طب كنت بلغ ان خطك اتسرق عشان يوقفوا الخط!
_ما هو ده اللي عملته، وبعدها اشتريت خط وخدت تليفون قديم كان عندي لحد ما أجيب غيره!
أومأت وهي تغادر السيارة بعجلة من أمرها:
تمام ياعمو راغب، يلا سلام بقى!
( أوف.. دي بقيت حاجة تعصب)
بلقيس محاولة احتواء غضبها: أهدي يا تيماء، مش يمكن فعلا في ظروف منعت والدك ومراته يجوا عيد ميلادك!
هتفت الأخرى بعدم اقتناع: لأ.. المفروض يكون عيد ميلادي أهم من أي شغل عند بابا.. هتلاقي مراته مالهاش مزاج تيجي، أنا سمعتها امبارح بتقوله إيه هودينا نحتفل وسط شلة ولاد صغيرين.. مش بعيد تكون اقترحت عليه خروجة تانية على مزاجها.. وانا يضحك عليا بهدية لما يشوفني!
شعرت بلقيس بأسف حقيقي. فهتفت داعمة: حبيبتي أكيد مش هتهوني عليه.. وهتلاقيه جه فجأة خصوصا إنك قفلتي معاه وانتي زعلانة منه، اهدي لسه اليوم طويل وفي أوله.. لعلمك حاسة على ما نحضر سوا الزينة ونظبط الدنيا.. باباكي هيكون جه!
رمقتها بتمني: يا ريت يابلقيس.. ياريت يعمل كده، ويحسسني إني أهم عنده من أي حد!
غلفهما برهة صمت، قطعتها بلقيس: هو انتي مش بتحبي مرات والدك؟ طب ليه مافكرتيش تعيشي مع والدتك يا تيماء؟
اغتامت عيناها السوداء أكثر: السبب معروف ومتوقع.. بخاف من جوزها طبعًا.. وكمان مش بصرف براحتي، خصوصيتي بتكون منهوكة.. لكن بابا على الأقل فاتحلي حساب في البنك ومش حارمني من حاجة..وتمتمت بإحباط: أو ده ظنه!
همت بلقيس أن تستكمل حوارهما، فقاطعها رنين الهاتف من والدتها، فردت قائلة: صباح الخير يا مامتي.. أديني برد عليكي اهو.. عشان تطمني اني بخير يا حبيبتي!..
تبادلت عبارت قصيرة وتلقت تحذيرات أكثر من والدتها، وأنهت حديثها، لتتلقى مكالمة أخرى من والدها بنفس التو.. فطمأنته ومازحته، وما أن انتهت حتى التفت لتيماء: الحمد لله عديت من أسئلتهم ونصايحهم واطمنوا عليا..ثم ضحكت: ولعلمك ساعة كمان وهرد على نفس المكالمتين واسمع بنفس النصايح! خوفهم عليا غريب ومش فاهماه!
رمقتها تيماء بنظرة غامضة دون حديث! وعادت تطالع الطريق مسرعة بشكل أجفل بلقيس وجعلها ترتج بمقعدها، فطلبت منها التمهل قليلا، حتى لا يحدث لهما مكروه!
_ قربنا نوصل يا تيماء؟
أجابتها الأخيرة: خلاص 10 دقايق ونكون قصاد الفيلا بتاعتنا..!
بلقيس بتأكيد: تيمو.. أوعي تنسي، لازم امشي بدري زي ما اتفقنا.. عشان أوصل للسواق في معاد مناسب!
_ ماتقلقيش، أنا وعدتك هوصلك زي ماجبتك!
بلقيس بضيق: يعني لو عندي عربية دلوقت وبعرف أسوق، مش كنت امشي براحتي بدال ما اعطلك عن اصحابك!
هتفت بلوم: أخص عليكي، تعطليني ازاي.. ده احلى حاجة في عيد ميلادي السنادي هي حضورك!
ابتسمت بلقيس بامتنان: شكرا يا تيماء.. إنتي افضل صديقة عندي.. وربنا يعلم بحبك ازاي!
………………… .
وصلا بعد دقائق لمكان الأحتفال، فترجلت بلقيس بصحبة تيماء من سيارتها، وأغمضت عيناها مستنشقة الهواء باستمتاع وهي تتمتم:
_الله على نسايم البحر وجماله!
ثم التفت لرفيقتها: بس الفيلا بعيدة شوية عن البحر نفسه، هنحتاج نمشي شوية، والمنطقة فعلا هادية أوي تقريبا بينكم وبين اقرب فيلا مسافة طويلة يا تيماء! المكان لسه بيتعمر!
_لأنه المنطقة جديدة وفعلا بتتعمر بالتدريج.. وهقولك ياستي أيه سبب اختيار بابا للموقع الهادي ده.. هو غيار شوية، خصوصا على مراته طبعا، فأخد الفيلا دي عشان تكون معزولة عن العيون وفي بعض الخصوصية.. طبعا أكيد ده مش هيدوم كتير، لأن طبيعي المكان كل مادا هيتعمر فلل وشاليهات.. بس هو لحد دلوقت مناسب! وعشان هنكون براحتنا حبيت احتفل بعيد ميلادي هنا، هتكون سهرة تحفة، وفرصة يا بلقيس تتعرفي على اصحاب تانين بدال ما انتي منطوية ومع نفسك!
عبئت بلقيس رئتيها بمزيد من عبق البحر، ثم مدت ذراعيها وكأنها تحلق بعنان السماء، وراحت تدور حول نفسها متمتمة لصديقتها بانتشاء:
مش مهم اصاحب حد تاني. كفاية انتي.. والمهم إني اخيرا جيت مكان في بحر وحاسة لأول مرة بشعور لذيذ أوي بالحرية، كان عندك حق يا تيمو، إني اتمرد واكسر القيود شوية واعيش سني! أكيد هفتكر اليوم ده وهيكون في رصيد ذكراياتي زي ما قولتي!
تيماء بغموض: أوعدك إنك هتعيشي يوم مش هتنسي تفاصيله لفترة طويلة!..هيعلم جواكي فوق ماتتصوري!
فتحت جفناها وأرخت ذراعيها جانبه، والتفتت لها بلقيس متسائلة ببراءة: ياه! شوقتيني..للدرجة دي الحفلة هتكون حلوة ياتيماء؟
_ طبعا.. الحفلة هتكون على شرف الملكة بلقيس نفسها..!
للمرة الأولى تتحير بلقيس بتفسير ما تتفوه به تيماء، لما ستكون هي محور حفلتها.. وبالأساس هو يوم، ذكرى ميلادها؟!
تيماء بعد أن اغلقت سيارتها:
يلا يابنتي هنفضل واقفين هنا، تعالي عشان. نفطر فطار خفيف ونشرب عصير.. وبعدها نرتاح شوية أحسن ضهري تعب من السواقة، واهو لسه عندنا وقت نحضر الزينة قبل ما الضيوف تيجي ونبدأ حفلتنا..!
توجها للفيلا الصغيرة، بموقعها المنعزل، والهاديء بشكل مخيف! ولا تعرف لما شعر قلبها بالرهبة فجأة وهي تلج للداخل! هل تبالغ؟! أم تخاف عواقب تجربتها وكذبها؟تجاهلت وخذ ضميرها وحدثت نفسها:
أهدئي ولا تكوني مثل طفلة تائهة غاب عنها والديها.. ستقضين يومًا رائعًا ثم تذهبين حاملة معكي ذكرى جميلة لتجربتك الجديدة.. والأولى!!!
أحاطت جانبي رأسها وتمتمت بوهن مباغت:
_راسي تقيلة أوي يا تيماء..! معرفش حصلي إيه فجأة كده الدنيا بتلف بيا..!
_ طبيعي يا بلقيس، لأن صاحيين بدري جدا والسفر اجهدنا، عشان كده بقولك هننام ساعة، ونصحي فايقين ونحضر اللي ورانا بنشاط!
_ عندك حق.. يمكن لو نمت شوية راسي تتعدل وافوق، أحسن عنية قفلت مرة واحدة!
غمغمت لها بخفوت: نامي ياحبيبتي.. نامي عشان تتحملي اللي جاي!
لم تسمعها بلقيس التي غرقت في سُبات عميق أصابها فور ارتشاف عصير خُفق بأيادي غادرة.. و “حوى” سائله على مخدر تاهت مرارته بحلاوة كاذبة!
سقطت الملكة.. لتبدأ دون أن تدري.. مراسم اغتيال براءتها..!
رأسها ثقيل منغمس بثنايا وسادة ناعمة وتعجز تمامًا عن تحريكها..! وعبق غريب يختلط بأنفاسها ويملأ محيطها، وصوت يخترق مدارك عقلها ببطء، وكلمات غير واضحة، تبدو گ همهمة خافتة، تحاول أذنيها التقاط طنينها.. والتساؤلات الصامتة تُطرح بتوجس! لمن تلك الأصوت الغريبة؟! أين هي؟!! البحر؟! تيماء؟! تحضيرات عيد الميلاد؟!!
وهنا استفاق العقل بغتة واستنفر الجسد بانتفاضة شديدة وكأنها تلقت صاعقة! وحاربت أستار عتمتها أسفل جفناها المسدلة وفصلتهما بإجبار، منتشلة عقلها من قبضة النوم المحكمةِ عليها! محدقةً حولها برعب! لتجد ما لم تتوقع رؤيته!!
جسدها يرقد بفراش وسط غرفة مغايرة لما كانت بها .. ويرافقها خمسة رجال!
ماذا يحدث معها؟! هل تعرضت لأختطاف؟؟؟؟
وأين تيماء؟ كانت ترافقها.. هل أصابها مكروه وهي غائبة عن الإدراك؟!.
“أوعدك إنك هتعيشي يوم مش هتنسي تفاصيله لفترة طويلة!..هيعلم جواكي فوق ماتتصوري!”
“الحفلة هتكون على شرف الملكة بلقيس نفسها..!”
توهج في عقلها بغتة، كلمات تيماء الغامضة گومضات برقت بثواني خاطفة، لينقشع عن مرآة عيناها حاجز البراءة الذي تصنعته تيماء.. وغدت الصورة أكثر وضوحًا الآن.. هي بكل سذاجة، وقعت بفخٍ غادر حاكته لها أفعى سامة .. وكانت تظنها ملاك!
الذهول يكاد يُذهب ” رشدها” والتساؤلات تنهش عقلها باحثة عن أسباب وتفسيرات لبشاعة تأمرها اللعين الخسيس وتسليمها لذئاب صدح ” عوائهم” الكريه وهما يتهافتون على نهشها مرددين على مسامعها.. رغباتهم القذرة بالأنفراد بها..وعلى مايبدو أن زعيمهم الذي يوليها ظهره أوقفهم بإشارة حاسمة من كفه بنفس وقت تفوهه بعبارة جمدت الدماء بعروقها..! وجعلت عيناها تتسع وتكاد تغادر محجرهما محدقة بقامة من تحدث:
“قلت برة لحد مايجي دوركم معاها.. سيبوني اخد مزاجي من غير وجع دماغ!”
صاعقة هبطت عليها وهي تميز صوته من بينهم.. ينهر أوغاده لترك الغرفة كي ينتهي هو أولًا..!
لا تصدق أنه هو نفسه “رائد” حبيبها.. من بين خاطفيها؟؟! كل ما كان بينهما كان خداع لإيقاعها بمكيدته؟ و اقترابه منها ماهو إلا خطة رسمها ونفذها ببراعة ليُحيك لها فخًا؟! أكانت له مجرد فريسة.. وعشقه الزائف “طُعم” لينالها هو وأفراد “القطيع” بأخر المطاف؟!
صامتة مُطرقةِ الرأس بذهول والدموع تنهمر گ المطر من عيناها، وهيئته المهزوزة الغائمة تقترب منها ببطء بعد أن رحل الأوغاد وعيناهم تلتهمها بوقاحة قبل أحكام الباب عليهما..!
ألتوى ثغره مبتسمًا بنصر رخيص:
أخيرًا صحيتي ياحلوة.. بس ولا يهمك.. نوم الهنا يا عروسة!..واقترب أكثر وهو يتمتم بزهو قذر:
أيه رأيك في المفاجأة دي؟!طبعا ماكنتيش تتوقعيها مني.. أو من صاحبتك اللي سلمتك لينا بيضة مقشرة!
وصدحت ضحكته العالية الشيطانية المنتشية بصدمتها الذاهلة المتألمة، لتجلد روحها جلدًا.. ليتها أنصتت لوالدتها وأخذته قلقها بعين الجد! ، ليتها تفهمت خوف والديها عليها، ليتها ما كذبت عليهما وخدعتهما لتلك الصورة! ماذا تفعل وهذا “الوحل” سيُلطخها بقذارته وهما لا يستحقا أن ينالهما عارًا تفوح رائحته من الهواء حولها.. وذاك الحقير، يُخفت إنارة الغرفة، لتصطبغ هيئته بلون الأضاءة ويحوطه هالة حمراء گشيطان رجيم، يقترب منها محلًا أزرار قميصه بتروي وعيناه تكاد تكشف سترها من فرط وقاحتها.!
أزداد ” زرف” مقلتاها بعبرات ندم وحسرة.. ولكن لم يفت الآوان بعد، مازالت بكامل ملابسها كمان كانت، يبدو أن غرور هذا الحقير، فضل أن ينالها وهي تقاومه، ليستمتع بكسرها وذُلها أمامه..وليست وهي بوعيٍ غائب!! وهي لن تدع أيًا منهم يدنسوا أرضها الطاهرة!!
لم تمتن بكل حياتها لوالدتها، گ تلك اللحظة، عندما اصرت على تعليمها لعبة قتالية تكون عونًا لها وقت الحاجة! “كم كنتي محقة يا أمي، وكم أنا أسفة لكي!”
تعاظمت في روحها قوة وهمة احتلت أوصالها وتدفقت بعروقها عزيمة غزت شراينها واشتدت عظامها صلابة وشكيمة..! وكورت قبضتها بإصرار! وقرار حاسم.. أنها ستحارب لأجل شرفها حتى أخر رمق..! فحياتها رخيصة مقابل ذلك..!
نهضت بهدوء مريب يسكن عيناها الجمود والتحدي استعدًا لمعركتها الأتية، مصوبة له نظرات قوية رادعة وتحذيرية إن حاول أن يدنوا..!
فهتف متهكمًا : هي القطة ناوية تخربش ولا أيه؟؟
ثم ضحك بصوت كريهة: خليكي ذكية أنتي بنت ضعيفة وسط خمس شباب! تفتكري في فرصة للنجاة من موقف زي ده؟!
بوغت منها بضربة مدروسة وقوية موجهة لصدره، فأرتد للخلف قليلًا موقنًا أن فريسته ليست هينة.. وأنها تمارس رياضة قتالية عنيفة!
وهذا بالطبع لم يكن بحسبانه هو ورفاقه.. ظنوها لن تملك للدفاع عن شرفها سوى الصراخ والعويل!!
وقف يتفرسها بغموض، ثم رمقها بنظرة ماكرة، وعلى دون غرة باغتها بركلات متتالية من قدمه لوجهها.. فترنحت وتقهقرت للخلف متألمة وهي تحسس على صدغيها.. والصدمة تعتلي قسماتها بشدة.. وأصابها الإحباط واليأس والخوف..!
فالتوى ثعره بابتسامة خبيثة منتشية بانتصاره المتجسد الآن على ملامحها المذعورة!!
فالمسكينة لا تعرف أنه ايضًا يمارس لعبة قتالية .. والمنازلة بينهما حتمًا ستغدو محسومة! هي بالنسبة له گ نملة تحاول إسقاط فيلًا ضخم..!
وكم ستكون متعته بفريسة شرسة مثلها تستحق بعض العناء والمجهود للحصول عليها..!!
كما أيقنت بلقيس أنها وقعت بأسر صياد عتيد ماهر، استحق لقب الصقر عن جدارة، ذاك اللقب الذي التقطته من فم رفاقه قبل أن يغادروا..!
ظنت أنها ستباغته بإتقانها إحدى رياضات الدفاع عن النفس ولن تكون فريسة سهلة المنال.. ففاجئها هو بأنه لا يعدم ممارسة لعبة قتالية مثلها..!
وبمقارنة القوة الجسدية بينهما.. لن يكون صعب التنبؤ بنتيجة المبارزة والمقاتلة بينهما!!
الأمر إذا يحتاج سرعة تفكير وثبات انفعالي شديد منها حتى لا تقع بشباكه العَفِينة .. شحنت قواها من جديد وانتصبت قامتها مرة أخرى.. وأقسمت داخلها أنها لن تكون ابدًا وليمته القادمة هو ورفاقه!
ولن يُراقَ دمُ عفتِها” إلا وهي جثةً هامدة!!!!
سقط من يدها كاسة عصير ليمون، أحضره لها عاصم كي تهدأ قليلا، فهتفت بفزع:
_ أستر يارب!
عاصم بتهوين للأمر: خلاص يا دُرة فداكي.. مجرد كوباية وقعت في ستين داهية..!
تجزعت ريقها بخوف مبهم تغلغل بها بغتة:
_ ده فال مش حلو يا عاصم، قلبي مقبوض اوي مش فاهمة ليه!
_ أنتي طول ما بلقيس برة هتفضلي قلقانة!
_لأ.. المرة دي قلقي غريب ياعاصم صدقني، حاسة كأن في حاجة وحشة هتحصل..وواصلت بلهفة: اتصلي بيها اسمع صوتها، ايدي بترتعش مش هعرف امسك التليفون!!
_ طب ممكن تهدي شوية، البنت مع اصحابها هتخلص الحفلة وترجع والسواق هايجيبها ماتقلقيش
_بردو اتصل.. لازم اسمع صوتها حالًا..!
أزعن لرغبتها إشفاقًا عليها، حتى يخمد نار قلقها المستعر!..تكرر اتصاله وهاتف ابنته يطلق رنينه دون رد،فقال: بصي هتلاقي الدوشة بتاعة عيد الميلاد في القاعة مش مخلياها تسمع تليفونها لأنه أكيد جوة شنطتها، هي شوية وهتشوف اتصالنا وتكلمنا..!
صمتت مرغمة.. ولكن لم يصمت صوت ذاك الهاتف داخلها واشتمت رائحة مكروهٍ ما يوشيك حدوثه.. هكذا يشعر قلبها الذي لا يخطيء.. ليتها ما وافقت على حضورها هذا الحفل.. ليتها ما انهزمت أمام تحقيق رغبتها..!
أغنضت عيناها متضرعة سرًا لخالقها:
يا الله أحفظ ابنتي أينما وجدت!
في مكان غير معلوم!
“العتمة.. هي وحدها ما تحوطه.. لا يرى شيء!.. ولا يصاحبه سوى صوت يأتي من زاويةٍ ما، مستغيثًا به.. يركض لاهثًا وشعور الخطر ينبعث من داخله بقوة.. يتتبع ذبذبة الصوت الذي يقترب شيئًا فشيء.. ويزداد اقتربًا..فتنجلي العتمة فجأة، كاشفة عن سماء غاضبة تطلق زئير “برقًا ورعد” بوميض صاخب مخيف، كاد سطوعه أن يفقده البصر..ودائرة سوداء غير واضحة تبرز أمامه بوسط الطريق، وتنبصق ذراع دامية.. فيرجف قلبه رهبة..ثم يتحرك تجاهها بحذر.. وفجأة! وقبل أن يصل إليها.. يتلاشى حلمه.. وربما كابوسه.. لا يعلم تحديدًا كيف يصف ما رآه للتو بتلك الغفوة القصيرة!”
أخترق صوت هاتفه أجواءه الساكنة، فالتقطه مجيبا بنعاس:
_ ألو..! ..يعني نفذت الي طلبته منك؟.. طب أنا جاي.. سلام!
موعدنا الثلاثاء القادم!