رواية “حصنك الغائب”
الفصل الثاني!
صوت الراديو المنبعث عبر شرفة والديه القريبة لشرفته، بدأ يتهادى لأذنيه، مخترقًا مداركه النائمة بنعومة، وابتسامة حالمة تشق شفتيه، مستمتعًا بما ينساب لسمعه وصوت “أيناس جوهر” المميز يتألق بكلمات المبدع صلاح جاهين ( غمض عنيك وامشى بخفة ودلع الدنيا هى الشابة وأنت الجدع تشوف رشاقة خطوتك تعبدك لكن أنت لو بصيت لرجليك تقع وعجبى..)..لا تتخلى والدته، عن عاداتها الجميلة بسماع ” الراديو” صباحًا، وكأن يومها سيبقى ناقصًا بدون صوت ” أثيرها” المفضل! لا يعرف لما عبر في مخيلته مشهد من إحدي أفلامه المفضلة للممثل ” عادل إمام”..” كركون في الشارع”..ومعاناته حين انهارت بنايته القديمة، وكيف نفذ فكرةٍ ما، وبنى لأسرته “منزل خشبي متحرك” گ حل مؤقت لمشكلته.. وكي يصبغ الأجواء بإستيطان كاذب! تذكر صوت ” إيناس جوهر” أيضًا وأذاعة “الشرق الأوسط” وكيف حاول إضفاء لمحة من الأستقرار عبر ذاك المذياع.. وگأنه في منزلًا حقيقيًا..آمنًا، أحيانًا بعض التفاصيل الصغيرة تشعرنا بالانتماء للأماكن والتلاحم النفسي معها..حتى لو صوت لأحدهم يحمل بنبراته عبق الزمن الجميل، وكلمات شعر سَلسة وعادات أصبحت تراثية وسط هذا الجيل!
تقلب على فراشه وأتسعت ابتسامته الساخرة من ذاته وأفكاره التي أخذته لأشياء لا يفهم حقيقًا لما طرقت على ذهنه هذا الصباح، ما هذا الهذيان يا ” يزيد”.. هيا ردد أذكار بداية يومك، ودعك من تلك الأشياء السخيفة..!
سمع طرقات هادئة على باب غرفته، ثم عبرت والدته وصدح صوتها، هاتفة: صحيت ياحبيبي؟!
أعتدل لها وفرك عيناه بكسل: أيوة ياغالية.. واكمل بشوق: وحشني صباحك يا أمي!
اقتربت وداعبت وجنته: وانت أكتر يانور عيني، وربنا يجعل صباحك بلون قلبك الأبيض يايزيد.. يلا أنا صحيتك بدري اهو زي ما طلبت مني.. مع إني كنت عايزاك تشبع نوم وتأجل مشوارك لبكرة! الدنيا ما طارتش يعني!
قال بعد أن استفاق بشكلٍ كامل:
ما انا ارتاحت يومين يا أمي، أنا هفضل معاكم شوية وبعدين هروح عند “بلقيس” في الجامعة، واقضي اليوم معاها واشوف عمي وطنت ” دُرة” واسلم عليهم!
_ ماشي ياحبيبي براحتك، وعلى ما تفوق وتجهز، هقول لأم السعد تجهز الفطار..!
………………
أبكر عابد في مغادرته لحضور محاضرات هامة، وفضل تناول إفطاره مع رفاقه فيما بعد..وأثناء مغادرته، لمح أخيه يزيد مُقبلا عليه، فمشطت عيناه هيئة أخيه سريعًا، ورغب بقول شيئًا ما، لكن تردد وتراجع، ثم قال: أنت خارج يا زيدو..! أكيد رايح للغزالة خطيبتك؟!
نهره يزيد: احترم نفسك.. غزالة في عينك!
واستأنف: أنت مش هتفطر معانا؟
_ للأسف يا كبير هحرمك مني انهاردة.. يومي متروس محاضرات من أوله! وليه مزاج ادبس الواد وائل في فطار جماعي محترم.. عشان اردله مقلب كان عمله فيا.. وواصل بمزاح: أنا هخليه يغسل مواعين مطعم الجامعة كلها!
وأشار بيده بسلام في الهواء، وغادر!
فلوح له يزيد بالمثل مبتسما وهو يتابع ابتعاده مرددا بخفوت: دماغك مفوتة يا عابد، الله يكون في عون اصحابك اللي مستحملينك!
بكافيتريا الجامعة!
هتفت تيماء بعد أن ارتشفت رشفة قهوة:
ماتيجي نتسوق شوية يا بلقيس.. المحاضرات خلصت بدري وفي عندنا وقت!
_ بابا عارف معاد خروجي وهيبعتلي السواق..خليها وقت تاني!
تيماء بتهكم: هو انتي لسه نونو يابلقيس؟ ده كلها شهور وهنتخرج من الجامعة، المفروض تكوني براحتك وتروحي مكان ماتحبي! اصلا إيه لازمة السواق؟ ماتتعلمي انتي تسوقي بنفسك!
زفرت بضيق: وبعدين معاكي ياتيماء، ما انتي عارفة خوفهم الزيادة عليا، ورفضهم اسوق لوحدي.. دي مشكلتي معاهم اصلا، بس هعمل أيه يعني مضطرة اتحمل!
هزت رأسها بيأس:
المشكلة إنك اتخطبتي لابن عم حسب كلامك مقفل وغيور .. يعني مش هيخليكي تتنفسي! يعني يامسكينة، هتخرجي من سجن أهلك لسجن جوزك..!
إمتى طيب هتعيشي سنك بحريتك؟
وبعدين بلقيس ملكة جمال الجامعة وأيقونة الفتنة، اللي البنات كلها بتغير منها وبتحسدها والشباب هيموتوا ويكلموها، تتخطب للكائن المبهدل في نفسه ده؟!
وكأنها نثرت ملحًا على عِلتها.. هي بكل جمالها وفتنتها، عاجزة عن نيل شاب يطابق خيالها، وهذا فقط رضاءً لأبويها.. وما يزيد ضيقها، أن قائمة الممنوعات التي تنتظرها مع يزيد ستكون أكثر بعد زواجهما..ليتها ما أطاعت والديها ورفضت للنهاية.. وقد ظنت أن عشق يزيد لها سيكفيها وربما أحبته هي الأخرى كما قالت والدتها.. لكن مر قُرب العام ولم تشعر معه بأي ألفة أو تمازج، بل ازدادت نفور وضيق.. دائما ما تنتقد هيئته الغير أنيقة إذا ما قارنته بشباب جامعتها شديدي الأناقة والجاذبيه!
لما لا يحسن يزيد طريقة تصفيف شعره ” الغبية” تلك! لما لا يقوم بتلك الخدع فيصير انعم ويأخذ مظهرا يرضيها، لما لا يتخلى عن عويناته المستفزة، ويقوم بعمل ” ليزك” لعيناه ويستغنى عن تلك النطارة الغليظة التي تضيف عمرًا لعمره.. أما “غيرته” عليها فقصة أخرى، تقريبا لا ينتهي لقاء أو نزهة لهما. إلا وختمها يزيد بعراك مع أحدهم. بحجة أنه عاكس أو تحرش بعيناه.. أصبح الوضع يخنقها وكرهت التنزه بصحبته..! ربما لو أحبته لتقبلت غيرته! هكذا اخبرتها تيماء! وما يزيدها نفورأكثر وأكثر.. أن مظهر يزيد حين أتى إليها ذات مرة، أعطى فرصة للبعض من زملائها، أن يسخروا منه ومن قبحه بالمقارنة بجمالها الطاغي..!
_ بلقيس تحبي أوصلك ولا هتستني بردو السواق؟
فاقت من شرودها على صوت تيماء بعد أن ادركت أنهما وصلا لباب الجامعة دون أن تشعر بذلك، فقالت:
لا مافيش داعي، هستني عمو راغب دقايق ويكون وصل وهرجع معاه!
………… .
وبينما هما يثرثران ويقفان بعيدًا عن دائرة بصره!
واقفًا هو بملامح شاردة، حزينة لعدم إهتمامها بعودته النهائية من تجنيده، لم تهاتفة وتهنئه، أو تبثه ولو لهفة زائفة، ولن يخدع نفسه هو يدرك أنه لم يمتلك قلبها بعد.. ولهذا عزم على الفوز بقلبها بكل الطرق.. سيغير طباعه التي ربما تنفرها منه..سيحوطها بحنانه وتفهمه أكثر، لتعلم انه لا ينظر لها كالأخرين ..دمية فاتنة يريد الجميع اقتنائها.. بل يعشق روحها، ثقتها بنفسها، ذكائها، قوتها، رقتها، كل شيء بها يصيبه بالوله! حتى عندما يتخيلها بعمرٍ أكبر، حين يغزوها الشيب، تغدو بعينه فتنة للناظرين.. ولهذا يغار عليها بجنون! ولا يجد وسيلة لتقنين غيرته تلك..!
تنهد ولسان حاله يقول “عذرا لغيرتي يا ملكة قلبي.. فمتى استقام عاشق دون غيرة؟! فإن ملكت أمرك يومًا..! سجنتك بين الضلوع! أنتي ماستي الغالية وكنزي الثمين!”
ها هي لاحت أمامه من بعيد برفقة فتاة أخرى.. فاعتدل بوقفته، متمتما حين أقتربت منه بعد أن ودعت الرفيقة: ازيك يا بلقيس!
تمتمت: الحمد لله يا يزيد، غريبة ما قولتش إنك هتعدي عليا؟! أنا كنت منتظرة عربية بابا بالسواق!
ابتسم وهو يجيبها ببساطة: ما أنا اتصلت بيكي عشان اعرفك إني جاي، ماردتيش.. فاتصلت بالسواق، قالي إنه هيروح ياخدك.. فقولتله يمشي وانا اللي هرجع بيكي البيت!
_ أنا مسمعتش رنتك خالص.. وصمتت برهة شاعرة بالحرج وأردفت: عموما حمد لله على السلامة!
ابتسم مرة أخرى وهو يحاكيها بنظرة عاتبة:
لسه فاكره يا بلقيس!
_ عادي قلت اسيبك تشبع من مامتك واخواتك، وهبقى اكلمك اما ترتاح!
_ تفتكري مكالمتك كانت هتتعبني؟ ولا أنتي مش من الناس اللي اشتاقتلهم؟
صمتت ثانيًا، فأعفاها بقوله: أنا عارف إنك زعلانة من اخر مرة اتقابلنا واتخانقنا، و اتعصبت عليكي.. بس أنا جيت اصالحك يا ستي، واستأذنت عمي نقضي اليوم سوا ونتغدا في مكان حلو وهرجعك بالليل!
لم تكن لديها أي رغبة بتمضية اليوم معه، “تحججت” قائلة: أيوة بس انا معرفش إننا هنتغدا برة وكده.. لو اعرف كنت لبست ” طقم” مناسب!
مشط هيئتها بنظرة فاحصة، وهتف متهكما رغما عنه:
إيه كنتي هتلبسي حاجة أضيق من كده؟؟؟
رفعت حاجببها بتحفز: هنبتدي بقى؟! أنت مش بتقول جاي تصالحني بردو؟؟
زفر بغضب مكتوم، ثم مسح على وجهه وحاول أن يعود لهدوءه: خلاص خلاص.. اتفضلي بقى اركبي مش ظريفة وقفتنا كده!
رضخت لأمره، واستقلت السيارة جانبه، فانطلق بها متمنيا داخله، أن يكون اليوم خطوة حقيقة في طريق تقريبها منه، وان تراه گ عاشق يستحق نيل قلبها، وتتفهم غيرته وغضبه قليلا..!
… ……………. ..
بلقيس أثناء تناولهما الغداء بمطعم ما”
_ ناوي على إيه بعد ما خلصت جيش يا يزيد!
يزيد بعد أن أرتشف بعضًا من حساءه الدافيء:
_ هبدأ مشروعي اللي حكيتلك عنه!
_ قصدك شركة المقاولات للإنشاء والتعمير؟
هتف بحماس: بالظبط.. حلمي يا بلقيس اشتغل في مجال دراستي، ويكون عندي شركة كبيرة وليها أسم وسمعة موثوق فيها مستقبلًا.!
هتفت: ربنا يحققلك أحلامك!
رمقها بنظرة تفيض حب وحنان ودفء:
_وأنتي كمان حلم غالي عندي يا بلقيس.. ياريتك تعرفي قد إيه بحبك وبخاف عليكي ونفسي اسعدك!
ارتبكت، ولم تتجاوب معه بكلمة، يزيد يبثها دائما مشاعره.. أما هي، فلا.. وكيف تفعل، أليس من المفترض أن يكون لديها مشاعر هي الأخرى لتبثها له؟ هناك أشياء لا يجوز فيها الكذب..شعرت بالسخط على ذاتها عندما لمحت نظرة عيناه التي يخصها بها دائمًا،. كم يبدو حاني رغم طباعه الحادة وهمجيته احيانا حين يغار ويغضب ويفقد عقله.. لما لا تعطي نفسها مجالا لتحبه؟! هل فقط هيئته الغير أنيقة وملابسه الغير عصرية سببًا في فتورها نحوه؟ أم أن روحها غريبة بعالمه؟ لا تجد ابدًا خط مشترك يقربها لنفس المدار..فتورها نحوه گ وضوح الشمس. كيف إذًا ستُبني حياة زوجية بينهما..؟
_ يزيد لو قولتلك أني بعد الجواز مش عايزة البس الحجاب ابدا ولا اغير استايل لبسي، هيكون ردك إيه؟!
القت سؤالها بغتها دون تخطيط، وطرحت هواجسها أمامه، ربما خالف توقعاتها وقال ما يرضيها..!
فحدجها بنظرة مطولة، محاولا أنتقاء كلمات لا تغضبها، ثم أردف بهدوء:
_ بلقيس حجابك ده شيء مفروغ منه..و لبسك كمان لازم هيتغير لأنه في نظري منتهى التبرج، لو أنا “بخيرك” دلوقت في الحجاب أو غيره.. فبعدين مش هيكون في مجال تختاري، لأنك هتكوني وقتها شايلة إسمي و هتحاسب عليكي..بعدين أنا مش فاهم إيه مشكلتك أنك تتحجبي وتوسعي لبسك ده شوية وتغيري استايلك؟!
( وإنت اللي هتغيرلي استايلي؟!)
كاد لسانها أن يُفصح بجملته الساخرة بضميرها.. لكنها قالت بعناد: لبسي وعاجبني.. وهتحجب اما أنا اللي اقرر ده. مش أمر ولا رغبة من حد!
ونهضت قائلة بغضب: وعايزة اروح لو سمحت، مصدعة ومحتاجة انام!
……………………..
غادرا المطعم بصمت، وكلا منهما يحاكي ضميره الخافي! يزيد الذي أصابه الحزن لهجومها وكأنها تتحين فرصة لذلك! فما أراد إلا أن يصونها من كل عين طامعة وقحة..! لكن لم يصل لعقلها سوى أنه يتحكم بها..
أما هي فازداد حنقها عليه، وغضبها يتصاعد داخلها، وجملته يتردد صداها بعقلها
( حجابك ده شيء مفروغ منه.. لو أنا بخيرك دلوقت في الحجاب أو غيره.. بعدين مش هيكون في مجال تختاري، لأنك هتكوني وقتها شايلة إسمي و هتحاسب عليكي)
هكذا ستكون الحياة إذا.. أوامر لا نقاش فيها..!
حسنًا..ربما وجب عليها التفكير بجدية في استمرار تلك الخطبة الحمقاء!..ليس من العدل أبدًا أن يُجبر مثلها على شيء!
لامت نفسها بضميرها، وهي تسير بحرص خائفة، وقد
بدا الشارع القاطن به ” أستاذها” خالي من المارة بذلك التوقيت المبكر، لما عاندت والدتها حين أمرتها بإيقاظ شقيقها ” ياسين” لإيصالها، بل الأكثر أنها طلبت منها حضور ” مُعلمها” لمنزلهم بشكل خاص، دون عناء الذهاب بمفردها.. لكنها عاندت وأرادت ألا تختلف عن باقي زميلاتها، وتأخذ معم درس جماعي.. حسنًا ياعطر، لن يحدث شيء، ستصلين لوجهتك سريعًا.. هرولت تنهب الأرض بقدميها، وبعد برهة قصيرة لاحظت احدهم يتتبع خطاها وگأنه يراقبها، أرتعبت كثيرًا ماذا تفعل؟! منزل أستاذها مازال يبعد مسافة قليلة ولن تأمن الطريق بملاحقة ذلك السمج، فربما تهور واستغل أنها وحيدة وجذبها عنوة لإحدى المداخل المظلمة لأي بناية!
وهاهي محقة السمج بدأ بالفعل بوصلة الغزل الزائفة مع اقتراب خطواته منها.. لامفر إذا من الهروب.. لحسن الحظ أن مسكن خالتها كريمة قريب من هنا.. أطلقت العنان لقدميها مهرولة دون النظر خلفها حتى وصلت بالفعل للبوابة الرئيسية، وعبرتها سريعا مرورًا بالحديقة، ووصلت للبوابة الداخلية وراحت تطرقها بعنف، وبنفس الوقت تضع يدها على الجرس!
فشعرت بيد أحدهم تلمس كتفها، فظنت أن السمج لحقها دون أن تنتبه، وأطلقت صرخة بترتها فور سماعها صوت يزيد: ده انا يزيد ياعطر أهدي!
ألتفت وما أن رأته حتى التقطت أنفاسها..!
فتعجب يزيد وتسائل: أيه يابنتي في ايه، بتنهجي كده ليه وأيه منزلك في الوقت ده؟!
جاءت ” خالتها” من خلفه بفزع وهي تدب بيدها صدرها: حصل ايه ياعطر؟!!! أوعي تكون اختي حصلها حاجة.. أستر يارب!
عطر ومازالت تلهث: لا لا… ما… محصلش حاجة ياخالتو.. ماما كويسة! بس انا كنت رايحة الدرس والشارع كان فاضي خالص وواحد مشي ورايا وعاكسني وحاول يقرب مني..خوفت وجريت منه وجيت على هنا..!
يزيد بعد أن فارت دمائه: الحيوان ابن ال……
وذهب يتفقد البوابة الخارجية لعله يلمح أحد فلم يجد.. فعاد موجها وصلة توبيخ لها:
وأنتي أيه نزلك دلوقت لوحدك ياغبية ولسه محدش صاحي والشوارع فعلا فاضية!
استاءت من توبيخه فهتفت بغضب: بس ماتقولش غبية انا كنت رايحة الدرس مش نازلة اتدلع في الشوارع!
فاقترب منها حازًا على أسنانه: أخوكي ياسين فين؟
اجابت: نايم!
فقال بتهكم: نايم؟! ده انا هطين عيشته ازاي يسيبك تنزلي لوحدك بدري كده!
هتفت مدافعة: على فكرة ياسين مايعرفش ان عندي درس بدري لأن ده معاد جديد، وأصلا البيت مش بعيد.. ومافيش داعي تضايقه، انا مش صغيرة عشان حد يوصلني.. عن أذنك!
همت بالمغادرة، فسد عليها الطريق هاتفا بتحذير:
دقيقة وهغير هدومي وأوصلك.. إياكي تتحركي قبل ما اجي وإلا هتندمي..!
حاولت الاعتراض فنهرتها الخالة لتطيع يزيد، ثم طيبت خاطرها وبررت غضبه انه لخوفه عليها.. وبعد قليل حضر وذهب معها، وأثناء سيرهما بصمت وقفت عطر بغتة دون أن يلاحظها يزيد، وانحنت بهدوء تعقد رباط حذائها الرياضي، لاحظ يزيد اختفاء ظلها جواره، فالتفت لتتسع عيناه وهو يطالع انحنائها بهذا الشكل دون ان تدري أنها فعلة لا تليق بفتاة!
فتوجهه إليها بغضب هاتفا بصرامة: اقفي على حيلك بسرعة يا اللي معندكيش ريحة العقل!
وقفت مندهشة من ثورته! ماذا فعلت ليوبخها ثانيًا؟! ألم يكفيه توبيخها هذا الصباح.. فقالت بضيق: أنت كل شوية تزعقلي ليه انا عملت أيه دلوقتي
رباط الكوتشي بتاعي اتفك وكنت بربطه، ولا امشي واتكعبل واقع على وشي عشان ترتاح.. ؟!
نظر لها ولا يعرف ماذا يقول.. انحنائحها وبروز خلفيتها ومعالم جسدها الأنثوية ،جعل الدماء تفور برأسه، فإن كان الشارع خالي الآن من المارة! فما الحال لو فعلت نفس الفعلة الحمقاء وسط شارع مكتظ بالبشر، وخاصتًا الشباب الوقح؟!.. التصور ذاته أشعل دماء وجهه، وجعله يرمقها بغيظ متمتما: بقولك ايه.. امشي اما اوصلك خلي اليوم ده يعدي على خير ونخلص!!!
………………
التزمت الصمت ولم تنطق بحرف، فحاول تلطيف الأجواء وتبديد غضبها، فابتسم وعلم كيف يراضي تلك الطفلة!
أمرها أن تنتظر قليلا وذهب ليبتاع اشياء يعرف أنها تحبها، وجاء ومد يده بحقيبة بلاستيكية قائلا:
اتفضلي ياستي مايرضنيش التكشيرة دي!
تمتمت بعبوس: مش عايزة، خليهم لجوري!
فأجاب : ما انا جبتلها شنطة زيها، اخلصي بقي ماتخليش ضميري يوجعني، انا اتنرفزت لأني خوفت عليكي، انتي زي جوري بالظبط واتجننت اما قلتي حد كان بيعاكسك وماشي وراكي، هو انا مش اخوكي الكبير ومن حقي اخاف عليكي واكسر دماغك لو عاندتيني؟!
رمقته بطرف عيناها الواسعة، زامة شفتيها بضيق گ الأطفال، عازفة عن إجابته، فابتسم، واستأنفا المشي، إلي أن وصلا المنزل المقصود، فصعدت دون النظر إليه، فسألها قبل أن تبتعد أكثر: هتخلصي الدرس أمتى؟
أجابت بإقتضاب دون أن تلتفت: بعد ساعتين!
…………………
أخرج هاتفه ليتصل بأحدهم!
باسين وهو يبحث عن هاتفه فوق المنضدة المجاورة ومازالت عيناه مغلقة: ألو..!
يزيد بسخرية: صح النوم يا رايق!
_ مين معايا؟!
_ نعم يا اخويا.. فوق يابني انا يزيد!
_ صباح الخير يا يزيد، بتتصل بدري ليه كده؟!
_هتعرف أما تيجي عند خالتك، يلا فوق وانزل بسرعة!
ياسين بوهن النوم: بعدين يا يزيد، عايز انام..!
_ بقولك قوم تعلالي عايزك ضروري!
قال بمساومة: طب قول لخالتو تحضرلي فطار..!
زفر يزيد بيأس هاتفا: طول عمرك طفس.. هقولها، انجز بقى وتعالي!
_ عطر!
التفتت فوجدت شقيقها، فقالت:
ياسين؟ انت ايه اللي جابك وعرفت ازاي مكاني؟!
اجاب وهو يحسها علي الخطى جانبه:
يزيد كلمني الصبح وبهدلني لأني مش عارف إنك رايحة درس بدري، وحكالي حصل ايه الصبح!
فقالت بضيق: ده انا كمان بهدلني وزعقلي عشان نزلت لوحدي
قال مؤيدا: عنده حق، لو اعرف كنت صحيت وصلتك انما انك ماتقوليش وتنزلي لوحدك غلطانة، بعد كده ياعطر تعرفيني اي حاجة وماتتصرفيش من دماغك، تروحي دروسك لوحدك في مواعيد عادية ماشي لكن معاد زي بتاع انهاردة ده كان تهور، وربنا وقعك في موقف يعرفك إن فعل كان لازم تقوليلي!
عطر : خلاص يا ياسين هبقي اقولك عموما الدرس ده يومين في الاسبوع ، تبقي توصلني المرة الجاية!
أومأ برأسه: ده شيء أساسي! مافيش مجال تصرفك يتكرر تاني أصلا!
في اليوم التالي!
_أنسة بلقيس.. يا أنسة!
التفت إلي المنادي: افندم!
اقترب الشخص مرددا وعيناه تفحصها بوقاحة: إنتي مش عارفاني.. أنا سامر الشرقاوي زميلك في الدفعة، وكنت حابب استعير الدفتر بتاعك!
رمقته وملامحها تنضح فتور وفظاظة: بس انا مش حابة.. وتركته مستأنفة طريقها بغرور، تاركة نظراته الحادة تكاد ترشقها بسهام الحنق عليها لتعاملها الفظ وغرورها وعدم سماحها لأحد بالحديث معها، مترفعة عن الجميع وكأنهم لا يستحقون نيل مصاحبة الملكة كما يلقبوها شباب الجامعة!
وهي للحق تستحق لقبها عن جدارة.. جمالها يُركِع لها أعتى الرجال.. وغرورها يصيب بنات جنسها بالحقد والغيرة! لم ينجح أحد بإختراق مجالها.. حتى الفتيات لا تصاحب منهم سوى القليل!
_مش قلتلك يا سامر سيبك منها دي مالهاش سكة!
باغته مجيء صديقه “رامز” متمتما بعبارته، فأجابه:
_هي عشان حلوة حبتين تعاملنا بقرف ومن طراطيف مناخيرها.. على قد جمالها على قد ماهي بنت مغرورة وواصل بنظرة حاقدة تطوي داخلها شر يلوح بصوته:
بس مبقاش سامر أن ما علمتها درس حياتها وكسرت مناخيرها المرفوعة علينا دي! وبكرة افكرك!
_ ماشي ياعم الأيام بينا.. تعالى بقى احكيلك على الحتة الجديدة اللي اخوك شقطها.. حاجة كده دمار..!
أتى ليراضيها بعد أن شعر بغضبها بأخر لقاء، سيظل يحاول تقصير المسافات بينهما بقدر استطاعته! لذا هاتفها بحضوره ليأخذها ويتجولا ببعض الأماكن، ويقضوا يوما رائع يترك بنفسها أثرًا جيد!
أطلت عليه ملكته كما يسميها سرًا في نفسه، يراها من بعيد أتية بقامتها المديدة ، وهيئة فاتنة دائمًا ما تخطف بصره، وتثير مشاعره.. وشعرها شديد السواد والطول يتطاير، فتحاول تقيده وبرمه، فيعاندها منفلتًا بخصلاته القوية متحررًا من قبضتها مسترسلا بحرية فتزفر هي بشكلٍ مضحك شهي!
وصلت إليه واستقلت السيارة بجواره، بعد أن ألقت تحيتها سريعًا ” ازيك يا يزيد”..فمنحها نظرة هائمة: ما دام شوفتك، أبقى بخير يا ست الحُسن..!
ابتسمت بغرور ولم تعقب، وانشغلت بالبحث عن شيئًا ما بحقيبة يدها.. فوجدته يمد يده لها بخقيبة جرتونية ملونة هاتفًا: اتفضلي!
_إيه ده يا يزيد؟!
تسائلت، فأجاب بابتسامة: شوفي واعرفي بنفسك..!
فعلت، واخرجت علبة أنيقة وردية اللون، وما أن فتحت طرفيها حتى فوجئت بساعة ذهبية بتصميم شديد الرقة والجمال، ابتسمت بصدق ونضح إعجابها وهي تردد: الله شكلها تحفة.. ابتسم وهو يطالعها بحنان منتظرًا ئن ترى باقي هديته، فالتقطت مغلف أخر يخوي تشكيلة ملونة وجذابة من “أطواق الشعر الملونة!”.. فرمقته متعجبة، فأخبرها:
لاحظت في كذا مرة وأنتي معايا إن “توكة” شعرك بتقع منك وبتفضلي تدوري في الشنطة على غيرها ومش بتلاقي.. فجبتلك تشكيلة منها، خدي مجموعة للشنطة، والباقي خليه معايا في العربية لو احتاجتيهم تلاقيهم!
رمشت أهدابها تأثرًا بفعلٍ لم تتوقعة! .. وقد لمس بتصرفه البسيط شيئًا داخلها.. أرجف قلبها..فتأملته دون أدراك متمتمة داخلها بتمني، ليتك كما أحلم يزيد! وسيم، أنيق، جذاب، مرن بأمور كثيرة! لكنك وللأسف بعيد كل البعد عن ما اتمناه..!
( عقبال ما اجيبلك الحجاب يا بلقيس.. واخبي جمالك ده من كل العيون، ويكون ليا لوحدي..!)
مرة أخرى يذكرها بقيد ينتظرها.. قيد لا تريده.. هل هداياه مجرد ” رشوة” ذكية، ليصل بها لما يريد، ويجعلها ترتدي حجاب لا تريد ارتدائه إلا برغبتها؟!
قُطب جبين يزيد فجأة عندما رآي اصطباغ وجهها بغضب بعد أن كانت تبدو سعيدة بهديته! وتلقى عاصفة غضبها الغير مبرر في رأيه :
شوفت؟! مافيش حاجة بتكملها للأخر، أنا اصلا استغربت إزاي تجيبلي توك لشعري بالذت وانت اصلا طول الوقت بتضغط عليا عشان اتحجب واخبيه.. فاكر إنك هتأثر عليا بالتوك دي عشان اوافق، وارضي سعادتك!
حدجها بنظرة مصدومة، تدرجت للغضب المكتوم منها ، فلم يكن بضميره قط ضغط أو خداع، تصرفه نابع من قلبه دون غرض.. فقط أرد إسعادها بشيء بسيط، رمقها بنظرة أخرى معبئة بالخيبة:
لعبة؟ هو ده اللي فهمتيه يابلقيس؟ أنا حاولت اعمل حاجة تسعدك، رغم انها بتتعبني انا، لأني بتحرق كل اما اتخيل حد غريب بيشوف شعرك ويتفتن بجمالك! بس بصبر نفسي أنك لسه مش مراتي، ومش هتحاسب عليكي إلا أما تشيلي إسمي. وبحاول اقنعك بالتدريج إنك تحافظي على نفسك وعلي نعمة ربنا ليكي، عايزك تبقي غالية، مش مكشوفة زي ال………
قاطعته باستخفاف: عارفة وحافظة.. زي قطعة الحلوى اللي بيتلم عليها الدبان عشان من غير غطى، صح؟! مش ده تفكيرك القديم بتاع العواجيز؟! بجد قرفت من وجهة النظر العقيمة دي!
هتف مدافعًا بهدير غاضب: دي ثوابت مفروضة علينا مش وجهة نظر قديمة أو جديدة! وصمت برهة يبتلع باقي غضبه وحنقه عليها، وهتف بعدها: كنت حابب نخرج شوية قبل ما اوصلك البيت..بس اعتقد إنك مش في مود يخلينا نخرج زي ما اتفقنا.. ولا أنا كمان بقيت متحمس لكده!
حدجته بنظرة لا مبالية وهتفت: لا عادي، وأنا أصلا مصدعة وماليش مزاج اخرج لأي مكان! يدوب توصلني، وبابا وماما مستنينك على الغدا..!
قام بتدوير محرك سيارته وتحرك بها، ملتحفًا بالصمت طوال الطريق.. وكلا منهما يدور بفلك أفكاره وتساؤلاته عن القادم.. وما ستؤل إليه علاقة بتلك التركيبة بينهما.. فبقدر حبه وعشقه لها.. بقدر نفورها وعدم تجاوبها معه.. بقدر ما يتمناها وينتظر وصالها بلهفة.. بقدر ما لا تظهر هي أي رغبة أو لمحة أنها تريد نفس الشيء.. لا يعرف هل هما وصلا لمنحنى نهاية.. أم بداية ستنبثق من رحم صبره عليها إن ظل يحتويها أكثر ويتغاضى عن جفائها معه.. أملا إن قُدر لهما الأقتران مستقبلًا، أن يبُثها مشاعره القوية دون قيود، ويهدم أي حدود تفصله عنها.. ستتذوق عشقه قطرة قطرة، ويراهن على قلبها.. أنه يومًا ما سيفتح ابوابه مرحبًا به مشتاقًا لسُكناه..!
لاحظت تخطيه فيلتها، فهتفت:
يزيد رايح فين.. إنت عديت الفيلا!
تمتمت بحرج بعد أن لاحظت شروده بالفعل: أسف، سرحت شوية في الطريق، أسبقيني انتي على ما اركن العربية!
ماما أنا عايزة اسيب يريد! ”
سقط من يد ” دُرة” بخاخ الماء الذي كانت تسقي به نبتة ” النعناع” الصغيرة جوار نافذة المطبخ حيث وجدتها ” بلقيس” وقذفت بعبارتها الحمقاء دون إنذار!
فاستدارت بحدة: إنتي اتهبلتي؟! تسيبي مين؟! وفجأة كده؟ ده انتي لسه كنتي معاه! إيه اللي حصل؟
بلقيس والتي تجهل أنها بذات اللحظة تشق قلب عاشقها نصفين: مش شبهي.. مافيش أي أمل أحس بيه يا أمي.. ارجوكي أنا مش هتحوز مجاملة عشان ارضيكم..!
…………… .
تسمرت قدميه فور سماعه عبارتها القاتلة لقلبه، معتصرًا بين أصابعه، زهرته الحمراء التي قطفها للتوي من حديقتها، ليهديها لها حتى يسترضيها مرة أخري.. ولم يكن يتخيل أن يينتهي يومه معها بتلك الطريقة! فلولا أن سأل عليها الخادمة واخبرته أنها لحقت والدتها في المطبخ ، وأتى دون إنتظار گ الضيف ليصافح العمة. ” دُرة”! لما سمع ما قالت! وتمزق قلبه گ ورقات زهرته المبعثرة أرضا..!
موعدنا الثلاثاء القادم!